مغامرة خطيرة
“الخروج من البيت مغامرة خطيرة”
كامل _ حزيران 1977
عندما خرجتُ من البيت في ذلك اليوم، أدركتُ أنّ أمرًا غير عاديٍّ سيحدث، ولم أعرف سرّ ذلك الشّعور الذي انتابني وأنا أساعد ابني سليم على صعود السّيّارة السّوداء القديمة. مرّ على هذا الحادث عشرة أشهر؛ انطفأت خلالها شعلة الأمل، وتسربلت الأيّام بالقحط واليباس. ولكن ليس في اليد حيلة؛ فالحياة في هذا البلد المحتضر كابوسٌ وانتظار، والإنسان فيه يصنّف بين خانتي الموت والحياة بحسب هُويّته.
أصاب يد سليم التهابٌ شديد، فقرّرنا أنا وزوجتي جميلة أن نذهب من فورنا إلى مستشفى أوتيل ديو في بيروت، على الرّغم من لعلعة الرّصاص وانتشار المسلّحين في الأمكنة كلّها. وفي طريق العودة، حاولتُ أن أسلك شوارع آمنة، خالية من تلك الطّحالب التي تنبت في كلّ مكان، ولكن من دون جدوى. آهٍ.. يجتاحني شعورٌ جارف بالحنين إلى بيتي، فحين أبتعد من حدوده أصبح كائنًا مفتّتًا بلا جذور، مقذوفًا به في كون مظلم. وفيما ألهج بالذّكر والصّلاة، إذا بي أتفاجأ بأحد حواجزهم. نهرنا كبيرهم:
ببطءٍ شديد نزلتُ من السّيارة، فاستشاط غضبًا، وأمطرني بسيل من الشّتائم:
مددت يدي بالهُويّة.
تعالت ضحكات رفاقه الملثّمين.
جميلة
مضيئةٌ شعلةُ الحياة في البيت، وفي خارجه تمتدّ عتمة الموت. فمنذ عشرة أشهر، وتحديدًا في ذلك اليوم المشؤوم الذي اضطررنا فيه إلى الخروج من ركننا الدافئ، تملّكني شعور بثقل يطبق صدري كبلاط القبر، أحسستُ أنّني طفلة صغيرة أفلتتْ يد أمّها في سوق مزدحم.
عند عودتنا من مستشفى أوتيل ديو كنّا لا نتكلّم إلّا لمامًا. الخوف من المسّلحين المنتشرين كالجراد في الطرقات؛ شلّ قدرتنا على التّفكير. كم هو مغامرة خطيرة الخروج من البيت في هذا البلد. الله يسترنا ويبعد عنّا أولاد الحرام. وبلمح البصر نَبَتَ حاجزٌ للمسّلحين من العدم. “انزل يا مسطول”. يقذفون بالكلمات التي تهدر آدميّة الإنسان. في البداية، يتلكّأ كامل في تنفيذ الأوامر، ولكنّه عندما يرى عددًا من الجثث المتكوّمة، ينقاد لما يُؤمر به من دون أيّة مقاومة. تتعالى ضحكاتهم، ثم يطلبون منه أن يرقص. يتردّد، ثمّ يرقص على وقع أغنياتٍ يطلقونها مبتهجين.
يأمرونه أن يستمرّ في الرّقص. يُنفّذ الأمر وفي عينيه ينوس ضوء حزين.
نهرني أحدهم: هاتي الهُويّة.
ناولته إيّاها
حاول أن يلمسني، صرختُ في وجهه.
سليم
عندما تنظر أمّي في المرآة يزداد نشيج بكائها. أبي لا يبكي، ولكنّه تغيّر بعد الحادث، وبات منعزلًا. أمّي أضحتْ تركّز على دروسي. ففي هذا الصباح الذي نزلنا فيه إلى المستشفى، كانت تعلّمني قصيدة مطلعها:
سقف بيتي حديد ركن بيتي حجر
فاعصفي يا رياح وانتحب يا شجر
في طريق عودتنا من المستشفى، تملّك الخوف والديّ، يخافان من المسلّحين الذين يقتلون النّاس ويرمونهم في الطّرقات كأكياس البصل.. أبي رفض أن يرقص، ولكنّه تحت إلحاح نظرات أمّي وتهديدات المسلّحين؛ رقص. وأمّي رفضت الغناء، ولكنّها استجابت بعد أن أطلق كبيرهم صيحةً مفزعةً في وجهها.
وكنتُ ساكنًا في الخلف. اقترب منّي أحدهم:
ضحكتُ، فاستغرب ردّة فعلي:
نزلتُ وأبي. وضعتُ يدي اليسرى على رجل أبي، تحت مفصل الرّكبة، ورحت أتمتم بكلمات السّحر، ثم بحركة خفيفة فككتُ رجل أبي الاصطناعيّة. اندهش الجميع. بعد ذلك اقتربتُ من أمّي التي تخبّئ نصف وجهها الأيسر، وضعتُ يدي على وجهها، ثمّ أبعدتُها:
دنوتُ منه:
وضعتُ يدي اليسرى على أصابع اليد اليمنى:
تطيّر المسلّحون من مناظرنا المشوّهة:
وفيما يدير أبي محرّك السيّارة، حانت منّي التفاتة صوب الجثث المتكوّمة، فرأيتها جالسة ترتشف القهوة، وتضحك. أمّا نحنُ، فقد ضحكنا كثيرًا ونحن نقطع الطّرقات عائدين إلى البيت. ولكنّ سرعان ما استحال الضّحكُ صمتًا موجعًا استدعتْ فيه الذّاكرة مشاهد فظيعة من ذلك الحادث الذي قلب حياتنا رأسًا على عقب. فعند مرورنا منذ عشرة أشهر في أحد شوارع بيروت المقفرة، حدث الانفجار المدوّي؛ فقد فيه أبي رجله اليمنى، واحترق وجه أمّي، وبُتِرَتْ أصابع يدي اليمنى.
عندما ظهرت الطّريق التي تصعد التّل وصولًا إلى البيت، غزت الضّحكة وجهي أبي وأمّي.
ضحكا معًا. رقص أبي فرحًا، وغنّتْ أمّي طربًا، أمّا أنا فرحتُ أنشد:
سقف بيتي حديد ركن بيتي حجر
فاعصفي يا رياح وانتحب يا شجر
عندما وقف ثلاثتهم أمام عتبة الباب، خشخش المفتاح في جيب الوالد؛ فزغردتْ قلوبهم فرحًا.