الأديب /محمود جمال

النسخة الخامسة القصة القصيرة

الأديب /محمود جمال

المركز الثالث في فرع القصة القصيرة من دولة الأردن

المريضُ

   أخيرًا، ها هو بين يديه، الابنُ الذي كان حُلْمًا على مدارِ إحدى وعشرين عامًا. تَضَرُّعٌ إلى الله، تَرَقُّبٌ وقلقٌ، وَمُنادَمَةٌ للأطِبّاء. كلُّ ذلك كان يستحق أمام هذا الكائن الوديع، بثغره الباسم وعينيه الملائكِيَّتَيْنِ.

   يحمله بأناةٍ كما لو يخشى الريح أنْ تُطَوِّحَهُ بعيدًا. زوجته تنظر إليه بِوَهَنٍ. وَهَنٌ يُراكِمُ الدّموع في عينيها. يلتفتُ إليها مُطَمْئنًا “لا تقلقي. طفلُنا سيكبر. سيكون قوِيًّا وذَكِيًّا. ربما أجعل منه محترف كرة قدم أو ملاكمة. لا، ليس ملاكمة. الملاكمة رياضة خطرة. حتمًا سأُعَلِّمَهُ الشّطرنج. سيُنافِسُ على بطولات العالم. وفي الوقتِ نفسه، سأتَقَصّى بِدِقَّةٍ ميوله العلميّة والأدبيّة. ربّما يصبح طبيبًا وكاتبًا في آنٍ معًا”. عند هذا الحدّ، لا تتمالك نفسها، فتنفجر في بكاء هادر. ممّا يجعله يفرُّ بطفله كمن يهرب من فيضان جارف.

   يسير في الشارع محبورًا به. لا يَنْفَكُّ عن مناغاته. المارَّةُ يُناظِرونه باستغراب، فَيُبَرِّرُ لهم “لو تعلمون كم طال انتظاري إيّاه!”. يبتعدون عنه دون تعقيب.

   يدلفُ متجرًا لمستلزمات الأطفال. يشتري كَمًّا مَهولًا من الألعاب والملابس. التّاجرُ يُوافِقُ على ما اشتراه بريبة. وَبِيَدٍ متردِّدَةٍ يأخذُ النّقود.

   ها هو الآن يعود لمنزله. يحاول قدر الإمكان إظهار ما اشتراه للمارَّةِ، يريد إشراكَهم في فرحه وسروره اتِّجاه طفله الجميل. لكنْ لماذا النّاس بهذا البرود؟!

   ما أنْ يدخل المنزل، حتّى يرتجف هلَعًا لرؤيته رجالًا ضِخامَ الأجساد يركضون نحوه. يصرخ تزامنًا مع إلقائه الألعاب والملابس أرضًا، فيما يتمسَّكُ بطفله قدر المستطاع. يصيح بزوجته لتساعده في حماية طِفلِهِما من هؤلاء الخاطفين. لكنّه يراها فقط تبكي، قبل غيابه عن الوعي.

   يتساءل حين يفتح عينيه “ما هذا المكان؟”. وبسرعة، يرى زوجته، تبدو عليها ابتسامة شاحبة. يُسارع صوبها “أين طفلنا؟ ماذا فعلوا به؟”. تضعُ كَفَّيْها على وجنتيه بِتِحْنانٍ “أرجوك يا زوجي العزيز. عليك الاعتراف بأنَّ طفلَنا قضى. هو لم يعش شيئًا. بالكاد جاء للدنيا، ثمَّ اختاره الله ليكون من طيور الجَنَّةِ”. يأخذ بضع أنفاس بتثاقل، فيما الدّموع تكاد تظفر من عينيه “لا… لا. طفلي كان بين يَدَيَّ…”. يصمتُ عقب سماعها “في هذا العالم الكثيرُ من الأطفال المحرومين من الآباء والأمَّهات. الأيتام، وأكثرُ منهم مجهولو النَّسَب. ما الضَّيْرُ يا زوجي العزيز؟! لقد تناقشتُ مع الطّبيب، واقترح هذه الفكرة، قائلًا أنَّها ستكون علاجًا ناجعًا لصحّتك العقليّة، التي أرهقها اشتياقُكَ لابنٍ. ومن ناحية ثانِيَةٍ، سندخل الفرح لقلب طفل مسكينٍ. طفلٌ قد يعيش طيلة حياته تحت وطأة ذَنْبٍ لا ذَنْبَ له فيه. ها أنت تبحث عن ابنٍ، وذاك الرّضيعُ مستقبلًا، سيبحث عن أبٍ”. يشردُ قليلًا “لكنّه لن يكون ابني. وَحَرامٌ عَلَيَّ نَسْبُهُ لنفسي”. “ومن قال أنّنا سنخالف شرع الله؟! حين يبلغ سِنًّا من الرُّشْدِ، سيكون لِزامًا علينا إبلاغُهُ بالحقيقة. وحتّى ذلك الحين، ستشتري له الكثير من الملابس والألعاب. وسيكبر ليكون قويًّا وذكيًّا. سيحترف كرة القدم. وتضعه على الطّريق للمنافسة على بطولات العالم للشطرنج. سَتَتَقَصّى بِدِقَّةٍ ميوله العلميّة والأدبيّة، ليصبح طبيبًا وكاتبًا في آنٍ معًا. سيجعلك اللهُ سببًا لِتَهَبَهُ كُلَّ ما يستطيعُ أبٌ عَطوفٌ وَهْبَهُ لابنٍ بارٍّ”. ترتسم ابتسامةٌ على مُحَيّاهُ، ويشرق وجهه بنورٍ جديدٍ. يضع يده في يدها، لِيُغادِرانِ المبنى، تحت أنظار وسعادة الطّبيب، الذي لم يَعْرِفا، أنَّهُ تَرَعْرَعَ مجهولُ نَسَبٍ، وكانت أُمْنِيَتُهُ فقط، الحصولَ على أبٍ كذلك المريض.