-1-
كانتْ في سنّ العاشرة، عندما تنبّأت عرّافةٌ بموتها قبل بُلوغها العشرين، ألقتْ نبوءتها في أذُن والدتها وغادرت.
-2-
ولسببٍ مشروع، أخفتْ أمّها هذا الخَبرَ عنها، بينما سخّرتْ حواسها وأطرافها لحراستها وأحاطتْ بها إحاطة الحُجّاج بالبيت الحرام.
لم تنتبهْ الصبيّةُ أوّل الأمر لنظرات والدتها التي كانت تَثقُبها كُلّما التصقتْ بها، ولمْ تَعِ هشاشةَ قلبها وهي تَتَعهّدُها بالزّيارة في غُرفتها كلّ ليلة لتتأكّد من تَنفُّسها.
لم تلمحْ البُنيّةُ غرابةً كُبرى، إلى أن بَدأتْ الوالدةُ بتَذوُّقِ صحن ابنتها قبل أن تَقعَ يدُها عليه. لمحتْها مرارًا وهي تلتقطُ لُقيماتٍ قبل أن تضعَ وجبتها على الطّاولة. لمْ تسألها -أو هكذا ألزمتْ نفسها- وهو ما شجّعَ الأمّ على مُواصلة طقسِها المُعتاد في الغداء والعشاء، بل تمادتْ في هاجسها حين منعتْ ابنتها من أكل أيّ شيءٍ خارجَ المنزل بحُجج كثيرة، لمْ تقتنعْ الطفلةُ بأيّ منها.
وإمعانًا في حمايتها، أصبحَتْ الأمُّ تلتزمُ بمُرافقتها إلى المعهد كلّ صباح، ثم ترجعُ إلى بيتها حَالَ تأكُّدها من دخولها الفصل، ثمّ ترجعُ بعد الظّهر مُنتظرَةً خُروجها أمام البوّابة، كَقطّة غيورة، بعينين تفيضان حذرًا ورهبة.
حتّى في أيام العُطل، كانت تجلسُ قُبالتها على غير العادة، بابتسامة باهتة، فضحَتْ مخاوفها.
“ألمْ تشتاقي لأبي؟”، سألتها البُنيّة ذات أُمسية.
“شوقي لك أكبر..”، ردّت الوالدةُ بحماس.
كان من الصّعبِ جدّا التملّصُ من رقابتها، خاصّة حين أُصيبتْ الصّغيرةُ بنزلةِ بردٍ موسميّة. كادتْ أن تقطعَ بها المسافة من المنزل إلى المستشفى حافية، لولا مُرور جارٍ مُتقاعدٍ، خطفها من يدها وَحَشرها وسط سيّارته وطار بها نحو الطّبيب، وحينَ فتحتْ البُنيّةُ عينيْها من الغد، بعد غفوةٍ طويلة، وجدتها جالسةً بجانبها، نائمةً على مقعدٍ صلب، كتمثالٍ من شمع.
-3-
وحدهُ جارُها المُتقاعد -أستاذُ المسرح- هو من أخرجَها من حبسِها وكَسرَ قيْدَها، حين زارَها ذات عشيّة للاطمئنان على صحّتها، ثمّ دعاها للمُشاركة في نادي المعهد عبر الانضمام إلى فرقة الفنون المسرحيّة، وأقنعَ والدتها بمُرافقتها أثناء كل حصّة أسبوعية.
وكما لو أنّها بُعثت من بين الأنقاض، اتّسعت بهجتُها، واستعمرتها منذ ذلك الحين، شهوةٌ جامحة في السّهر كُلّ ليلة، وسط الكتب والأشعار وأغاني الأوّلين.
اتّقدت قريحتُها بعد كل حصّة تدريب مسرحيّ، وتَملّكتها نزعةٌ مجنونة في الصُّراخ المُشبَعِ بالضّحك. أصبحت الصّبيّةُ تتصيّدُ خلواتها في غُرفتها، لتفتحَ ذراعيها بهُتافات كتومة، خجولة، نحو سرب طيور مهاجرة أو سحابةٍ حُبلى تغسلُ كَدَرها وأحزانها.
وفي خِضّم تلك الفورة السّاكنة داخلها، اقتربَ موعدُ العرض الرّسمي للمسرحية، واقتربَ معهُ صُعودها الذي بدأت تلمح بشائرهُ إثرَ كلّ كلمة إشادةٍ أو تنويهٍ من أُستاذها.
وقُبيلَ بُزوغ فجر اليوم الموعود للعرض، انتبهتْ الصّغيرةُ من نَومها، وهي تتحسّسُ وخزًا خفيفًا أسفل صدرها لم يُفارقها، إلى أن تنفّسَ الصُّبح.
قامت على عجلٍ، وتهيّأت على مهل أمام مرآتها كالعروس، قبل أن تَصحَبَها أمّها إلى معهد الفنون المسرحية، أينَ بدأتْ قاعة العروض تغُصُّ شيئًا فشيئًا بالمُتفرّجين والفُضوليين والمُختصّين والطلبة والعابرين.
وعقبَ كلّ مشهد، ومع عُلوّ التصفيق واختلاط الحناجر بالمدح تارة وبالنقد تارة أخرى، كانت عيناها تشرئبُّ نحو والدتها، كأنّها تطلبُ مددًا بحُضورها.
وعلى مشارف المشهد الأخير، وبمهابةٍ لم تفقَهْها، خرجتْ لأداء آخر أدوارها، بعد أن ألقى المُخرجُ جُملةً واحدة في وجهها.
لكن، ودون سابق إنذار، وبدويّ انتفضت له القاعة، صرختْ والدتُها بصوتٍ مكلومٍ ورأسٍ حاسرٍ، قُبيلَ انتهاء العرض، قُبيلَ تصفيق الجمهور، صَرَختْ، إثرَ سُقوط ابنتها مُباشرة فوق الرّكح، عملاً بأوامر المُخرج، كجذعِ نخلةٍ خاوية.