الطَّرْقُ على بابِ فرناندو بيسوا
سعد صبار السامرائي
تتَّسِمُ أعمالُ فرناندو بيسوا بتفرُّدٍ لافتٍ في تناولِ شتَّى الأجناسِ الأدبيَّة، معتمدةً على أدواتٍ مَعْرفيَّةٍ ولغويَّةٍ تَنْـمُّ عن ذِهْنٍ مُتَّقدٍ وشعورٍ عميقٍ بالجَمالِ والخيال. فقد تجاوز بيسوا المنهجَ التقليديَّ في كتابةِ النُّصوص، مُؤسِّسًا لأسلوبٍ يَمْزِجُ بين العناصر الماديَّة والمعاني الرمزيَّة، كاشفًا عن أَنْساقٍ ثقافيَّةٍ كامِنةً في ذهنهِ.
تتجلَّى في أعماله ثنائيَّاتٌ مُتعارِضةٌ: الظَّاهِرُ والمضمر، والمحاكاةُ والمُغايرة، والحقيقةُ والوهم، والوِحدةُ والتعدُّد. هذه الأضدادُ تُجَسِّدُ صراعًا مُزْدَوِجًا: صراعَ الذَّاتِ مع الوجود، وصراعَ النَّصِّ مع القارئ. ومن اللافتِ في أسلوبِه توظيفُ التَّجسيدِ والأَنْسَنَة؛ إذْ يُضفي على الجُماداتِ حياةً، ويكْسِبُ المعنويَّ جَسَدًا، فيغدو العنصرُ الجامدُ كِيَانًا يَنبِضُ بالدلالة. يبلغُ هذا الأسلوبُ ذُرْوَتَه في قصتِه القصيرة “الباب”؛ وهي محورُ قراءتنا الرَّاهنة، حيث تنعكِسُ محاولةُ بيسوا تفكيكِ الأنساقِ التقليديَّةِ المُسيطِرة، وإعادةِ تشكيلِها في قوالبَ رمزيَّةٍ عميقة، لتتحوَّل النُّصوصُ إلى فضاءاتٍ مفتوحةٍ تتجدَّدُ قراءتُها في كلِّ مرَّة.
وُلد فرناندو بيسوا في لشبونة عامَ 1888، لكنَّهُ قضى جُزءًا كبيرًا من طفولته بين عامي 1896 و1908 في جنوبِ إفريقيا، حيث تَلَقَّى تعليمَه في مدينتَي ديربان وكيب تاون، وأتقنَ اللغةَ الإنجليزيَّة. كانت الإنجليزيَّةُ لغةَ أشعاره وقصصِه القصيرةِ المُبَكِّرة؛ ولعلَّ تعدُّدَ اللغات لدى بيسوا هو السَّببُ وراءَ تَنَوُّعِه الاستثنائي. ومع ذلك، لم يكتفِ بالكتابة بلغتين مختلفتين وتقاليدَ أدبيَّةٍ متباينة (الشعرِ الإنجليزي في أواخرِ القرنِ التاسعَ عشرَ والشعرِ البرتغالي بعد الرومانسيَّة)، بل كتبَ ونشرَ أعمالَه البرتغاليَّة تحتَ ستَّةِ أسماءٍ مختلفةٍ أطلقَ عليها “الأسماءُ المُستعارة” (Heterónimos)، حيث مثَّلت كلُّ شخصيَّةٍ منها أسلوبًا شعريًّا وهُويَّةً مستقلَّةً [1].
تمامًا كما تفعل شخصيَّةُ بيرانديللو في مسرحيَّتهِ “أنتَ على حقٍّ إذا كنتَ تعتقدُ ذلك” [2]، اختار بيسوا أن يعيشَ حيواتٍ متوازيةً من خلالِ شعراءَ خياليِّين وشخصيَّاتٍ وهميَّةٍ جسَّدَها أدبيًّا، فنشرَ أعمالهم تحت أسماءٍ مُستعارة، ممَّا سمح له بتوسيعِ أُفُقِه الأدبي.
في إحدى رُباعيَّاتِه التي كتبَها باللغةِ الإنجليزيَّة عامَ 1918، عبَّر بيسوا عن ازدواجيَّةِ هُويَّته الأدبيَّة قائلًا:
كبيرةٌ وضخمةٌ هي النجومُ،
كبيرٌ وضئيلٌ هو القلبُ، وبإمكانِه
أن يَحْمِلَ أكثرَ من كلِّ النُّجوم، كَونُه
بلا مكانٍ؛ أعظمَ من السَّماءِ الواسعة [3].
أظهر بيسوا في هذه الرُّباعيَّة عُمقَ أدواتِه الأدبيَّة، حيث تَعكسُ النُّجومُ ضَخامةَ الكونِ والوجود، بينما يُبرِزُ القلبُ صِغرَهُ المادِّيَّ وعظمتَهُ المعنويَّةَ في آنٍ واحد. هذا التَّبايُنُ يُوضِّح التَّجسيدَ في أبهى صُوَرِه؛ إذ تتحوَّلُ النُّجومُ إلى كِيانٍ مادِّيٍّ ملموسٍ يَحْمِلُ دلالةً رُوحيَّة، بينما يَصيرُ القلبُ فَضاءً لا مَحدودًا قادرًا على استيعابِ الوجودِ بأَكمله. ويُظهِرُ هذا التوظيفُ قُدرةَ بيسوا على استحضارِ المعاني الرَّمزيَّةِ وصياغتِها في سياقاتٍ مَجازيَّةٍ مُبتَكَرة، مُبرِزًا بذلك صراعَ الذَّاتِ البشريَّة مع الوجودِ الشاسع، وكذلك البحثَ عن المعنى في عالمٍ يَتَّسِمُ بالضخامة والصِّغَر معًا.
في الواقع، حَرَمَهُ هذا التنوعُ من العفويَّة في التَّعبير، ومن الارتباطِ بالطبيعةِ والبساطة؛ إذ كان دائمًا مُضطَرًّا للاختيار بين التَّعبير عن نفسهِ بالإنجليزيَّة أو البرتغاليَّة. هذه الازدواجيَّة فَرَضَت عليه نوعًا من الاغترابِ الذَّاتي، لكنَّهُ حوَّل هذا التَّشظِّي إلى فضيلةٍ أدبيَّة، إذ كان عليه في كلِّ لغةٍ أن يتجاهلَ التَّقاليد الشِّعريَّة وأنماطَها الخاصَّة بالأُخرى. حتَّى اسمُه نفسُه يبدو وكأنَّه يَعْكسُ هذا المصيرَ الغريب، فهو مُشتقٌّ من الكلمةِ اللاتينيَّة التي تعني “شخصيَّة في مسرحيَّة” أو “قِناع”، وفي البرتغاليَّة الدارجة يعني “مجرَّد شخص”، بما يُرمَزُ به إلى الطبيعةِ المُتعدِّدةِ لهُويَّته الأدبيَّة.
تُعَدُّ قصَّةُ “الباب” التي كتبها بيسوا عام 1906 واحدةً من أبرزِ تَجارِبِه الأدبيَّة، إذ تتقاطعُ فيها الفلسفةُ مع الأدب النَّفسيِّ لتَخْلُقَ نَصًّا فريدًا يُعبِّرُ عن هواجسِ الذَّاتِ البشريَّة وحدودِ المعرفة. في هذه المقالة، “سنطرقُ بابَ بيسوا” لفَهْمٍ أعمقَ لدلالاتِ هذه القصَّة وتأمُّلاتِه حولَ الجنونِ والهُويَّة.
تنقسمُ قصَّةُ “الباب” إلى قسمين رئيسيين: مُقدِّمةٌ فلسفيَّةٌ تتناول موضوعاتِ الغَريزةِ والتطوُّرِ والجُنونِ وطبيعةَ الانحرافِ العقليِّ بوصفِهِ معرفةً تتجاوزُ المفاهيمَ التقليديَّة، وسرديَّةٌ أطولُ بصيغةِ المتكلِّم، تَركِّزُ على العلاقةِ بين السَّاردِ والباب “العادي” في دهليزِ القصر.
قبل بداية القصَّة، يضعُ بيسوا اقتباسًا من روايةِ “الشَّيطان العاشق” للكاتب الفرنسي جاك كازوت يقولُ فيه:
“كلُّ هذا يبدو لي حُلُمًا، فَكَّرتْ؛ لكن هل حياةُ الإنسانِ غير هذا الأمر؟ إنَّني أَحْلَمُ بشكلٍ أكثرَ غرابةً من الآخرين، هذا كلُّ ما في الأمر” [4].
إنَّ اختيارَ هذا الاقتباسِ يَضَعُ القارئَ في مواجهةٍ مباشرةٍ مع فِكْرَةِ الإغراءِ الذي يَنطوي على خَطَرِ فُقدانِ السَّيطرة، والتَّشكيكِ المُستمرِّ في طبيعةِ الواقع. وعلى غِرارِ روايةِ كازوت، يُصبِحُ الخطُّ الفاصلُ بين الحقيقةِ والخَيالِ في نَصِّ بيسوا مُشوَّشًا، ممَّا يَدفعُ القارئَ إلى التَّساؤل عَمَّا إذا كانت الأحداثُ نابِعةً من تجربةٍ واقعيَّةٍ أم أنَّها محضُ وحيٍ من اضطرابٍ داخليٍّ يُعانيه السَّارد.
تبدأُ القصَّةُ بمُلاحظةٍ تأمُّليَّةٍ حولَ الفارِق (أو عَدَمِ الفارِق) بين “المَجْنون” و”الرَّجلِ العادي”، ممَّا يضعُ القارئَ في سياقٍ استبطانيٍّ يعكسُ صراعَ الثُّنائيَّات.
منذ البداية، يَتجاوَزُ “الباب” كَوْنَهُ مُجرَّدَ عُنصُرٍ مادِّيٍّ ليُصبِحَ استعارةً مُتعدِّدةَ الطَّبقات، حيث يَتَحوَّلُ هذا العَنصرُ اليوميُّ إلى رَمْزٍ للتوتُّرِ النَّفسيِّ والهَواجسِ التي لا يُمكنُ السَّيطرةُ عليها. يَصِفُ السَّاردُ رَغْبَتَهُ الاندفاعيَّةَ في “رَكْلِ الباب” كُلَّما مَرَّ بِجَانِبِهِ، وهو ما يَخلُقُ تَوازِيًا بين القدَمِ والباب، كما لو أنَّ كِلَيْهِما يُمَثِّلان كِيَانَيْنِ مُتداخلَيْنِ يَعْكِسان ذاتَ البطل. يقولُ السَّارد:
“كلَّما مررتُ عَبْرَ الدَّهليز، بتُؤَدَةٍ أو بسرعةٍ، نائمًا أو مُستيقظًا، كان يَتَمَلَّكني اندفاعٌ لم أكن أتحكَّمُ به فأُمارِسُهُ دائمًا لأركلَ ذلك البابَ برجلي اليُمنى” [5].
يَلعَبُ التَّجسيدُ دَوْرًا مَركزيًّا في القصَّة، إذ يُضفي السَّاردُ صِفاتٍ إنسانيَّةً على الباب، واصفًا إيَّاه بأنَّه “شَخْصٌ بجاذبيَّةٍ تفوقُ الفظاعة”. هذا التَّجسيدُ لا يقتَصِرُ على وصْفٍ ماديٍّ، بل يَتَحوَّلُ إلى عمليَّةٍ نَفسيَّةٍ عميقةٍ تَعْكِسُ تماهِيًا تدرُّجيًّا بين السَّاردِ والباب. يقولُ السَّارد:
“لطالما سألتُ نفسي عن سببِ كُلِّ هذا الأمر، هل ثَمَّةَ في الباب ـ الذي ليس فيه ما يَثير الانتباه ـ ما يجعلني أرتعشُ أمامه؟ هل للباب أيضًا رُوحٌ تُؤَثِّرُ في روحي؟” [6].
يكشفُ هذا التَّساؤلُ عن تأمُّلٍ فلسفيٍّ عميقٍ يتخلَّلُ النَّص، حيث يُصبِحُ البابُ تَجسيدًا لهواجسِ السَّاردِ وانعكاسًا لذاتِه المُضطرِبة. يَظهَرُ هذا التَّداخُلُ في لحظةٍ مَحوريَّةٍ عندما يُفصِحُ السَّاردُ عن رغبَتِه في “ركلِ نفسه”، ممَّا يُشيرُ إلى اندماجِ الباب ـ باعتباره مَوضوعًا خارجيًّا ـ مع الذَّاتِ الداخليَّة. يَقودُنا هذا المَقطعُ إلى جوهرِ المسألةِ المتعلِّقةِ بنُمُوِّ “الباب” في النَّص، وعلاقتهِ الوطيدةِ بالبطلِ الذي لا اسمَ له ـ وربَّما يَتَماهَى معه ـ في مستوياتٍ ظاهرةٍ وأُخرى خَفيَّة.
وجديرٌ بالذِّكر أنَّ قصَّةَ “الباب” كانت من أوائلِ القصص التي كتبها بيسوا باللغةِ الإنجليزيَّة، ومن اللافتِ ملاحظةُ التَّراكيبِ اللغويَّةِ المُستخدَمة في السِّياق؛ إذ تشتَرِكُ كَلِمَتا (Foot)و (Door) في الحَرْفِ المُزدوِج (oo) في مَرْكزَيْهِما، بوَصْفِهِما كَلِمَتَيْنِ أُحادِيَّتَيْنِ تَدْخُلان في علاقةٍ تَصادُمِيَّة. يمكن اعتبارُهما شكلًا من أشكالِ التَّضاعُفِ الرَّمزيِّ بين العُنْصُرَيْن الرئيسَين، قَدَم السَّارد والباب، وكأنَّهما عَيْنانِ تنظرانِ إلى القارئ.
ومهما يكن، فإنَّ العلاقةَ بين القَدَمِ والباب تَضبطُ “الإيقاع النابض” المحوريَّ للقصَّة، مُحدِثَةً تأثيرًا مَرآويًّا بين الطرفين ـ “ركلةٌ تَصالُحيَّة” [7] ـ تتطوَّرُ من اللغةِ التَّشخيصيَّةِ المُستخدمَةِ في البدايةِ للإشارة إلى الباب، الذي يُصوَّر كشخصٍ “له جاذبيَّةٌ طاغيةٌ وسِحْرٌ جَهنَّمي”، إلى تبادُلٍ للصِّفاتِ الغامضةِ وتطوُّرِ دافعٍ مازوخِيٍّ يَجْعَلُ السَّاردَ ـ البطل يَرَى نفسَهُ كموضوعٍ للعُدوان، وكأنَّه البابُ نَفْسُه.
في النهاية، يَتَّضِحُ التَّشابهُ بين بحثِ السَّاردِ عن الطبيعةِ الخفيةِ للباب، وسَعْيِه الدَّؤوبِ للكَشْفِ عن طبيعةِ الإنسانِ الذي هو عليه. ولكن عندما تُصبِحُ القصَّةُ أكثرَ رمزيَّةً، يَتَّخِذُ السَّردُ طابعًا نَفْسِيًّا، حيث يُرمَزُ فتحُ البابِ إلى الدُّخولِ في أعماقِ نَفْسِ السَّارد، بينما يُشيرُ انهيارُهُ في الوقتِ ذاتِهِ إلى انهيارِ عَقْلِه نتيجةَ حُزْنٍ مُتَخيَّلٍ يَتَجلَّى في حالةٍ من الهَوَسِ بالتَّشخيصاتِ المُتعدِّدَةِ ونَزْعِ المادَّةِ عن الكائناتِ والأشياء.
وممَّا لا شَكَّ فيه، تُعَدُّ قصَّةُ “الباب” استكشافًا فلسفيًّا لِمَفهومِ الجُنون، إذ يُقَدَّمُ بوصفِهِ حالةً مَعرفيَّةً تتجاوزُ الفَهمَ التَّقليديَّ. وبحسبِ النَّص، فإنَّ الجنونَ ليس فُقدانًا للعَقلِ بقدْرِ ما هو وسيلةٌ للعُبورِ إلى مُستوياتٍ أعمقَ من الإدراك. يقولُ السَّارد:
“إن اختلالي العقلي تحت تأثير هذه الجاذبيَّة لا يَقبَلُ التَّفسيرَ إلَّا قليلًا” [8].
مُشيرًا بذلك إلى الطَّابعِ الغامضِ لهذِه المعرفة.
وبِالمِثْل، تُذَكِّرُنا هذه الأجواءُ بقصصِ إدغار ألن بو، وخاصَّةً قصَّة “انهيارِ صَرْح أوشير”، حيث نجدُ وعيَ البطل يَنعكِسُ على المكانِ وانهياره. يقولُ السَّاردُ في قصَّة بو:
“ما الذي كان يحدث لي.. وقفتُ أُفكِّرُ طويلًا.. ما الذي كان يُفقدني أعصابي ويُوهنُ عزيمتي ويَدفعُني إلى تأمُّلِ مَنْزِلِ أوشير؟ ذلك سِرٌّ من الأسرار المُستعصِية التي لم أَفْهمها؛ لم أكن قادرًا على ملاحظة ظِلال الأوهام التي تَتزاحَم داخلي وأنا أَسبَحُ في التأمُّلات” [9].
هذه العلاقةُ الرَّمزيَّةُ بين العَقلِ والمكان تُضفِي على النُّصوصِ أبعادًا نَفْسِيَّةً ورمزيَّةً عميقة، وتَجعلُ من البيئةِ انعكاسًا للذَّات الدَّاخليَّة للشخصيَّات.
يمكنُ استحضارُ أمثلةٍ مشابهةٍ مثلَ قصَّةِ “الهورلا” لموباسان (1887)، التي تُصوِّرُ علاقةً مُعقَّدةً بينَ العَقلِ والمُحيطِ المادِّيِّ، ممَّا يُبرزُ حالةً نَفْسِيَّةً مُضطرِبةً مشابهة. في هذا السياق، يُعبِّرُ الساردُ عن صراعٍ داخليٍّ عميقٍ يتجلَّى في عباراتٍ مفعمةٍ بالتوتُّرِ والانفعال، مثل: “ما الذي حلَّ بي إذن؟ إنَّه هو الهورلا، يتلبَّسُني، ويدفعُ بي إلى التفكيرِ في هذه الحماقات! إنَّه بداخلي، لقد صارَ روحي؛ سأقتُلُه!” [10]. هذا الاقتباسُ يُبرزُ ثيمةَ التسلُّلِ والتهديدِ الذي يُمثِّله “الآخرُ”، وهو كيانٌ غيرُ مرئيٍّ يُهدِّدُ استقلالَ الذاتِ ويُحوِّلُها إلى ساحةِ صراعٍ بينَ العَقلِ والجسدِ.لكن في “الباب”، يُضيفُ انهيارُ الباب والجدران المحيطةِ به بُعدًا إضافيًّا يَعكسُ تَشَظِّيًا عَقْليًّا للسَّارد؛ إذ يمكنُ اعتبار هذا الانهيارِ المادِّيِّ استعارةً لتفكُّك الذَّاتِ وغيابِ الانسجامِ الداخلي، حيث يَتداخَلُ الانهيارُ المادِّيُّ مع الحالةِ النفسيَّةِ للسَّارد، ليُبرزَ هَشاشةَ البناءِ النَّفْسِيِّ في مواجهةِ الضُّغوطِ والهواجس.
هذا التَّحوُّلُ لا يُمَثِّلُ نهايةَ القصَّة، بل يَفسَحُ المجالَ لتحليلٍ ذاتيٍّ عميقٍ، مُتجاوزًا السَّردَ المُباشِرَ إلى مستوىً رمزيٍّ يُثري النَّصَّ بأبعادٍ فلسفيَّةٍ ونفسيَّةٍ مُتعدِّدة.
يَظْهَرُ ذلك جَلِيًّا في العبارةِ الختاميَّة:
“لكنَّني شَعَرتُ بتحوُّلٍ في ذاتي؛ فشَدَّني تَذَكُّرُ الباب، وهو يُمسِكني بمخالبهِ الفظيعة. هذه الجاذبيَّةُ هي التي أصابَتْني بالجُنون” [11]،
إذ تَعْكِسُ هذه الجملةُ لحظةَ وعيٍ أو تحوُّلٍ داخليٍّ لدى البَطَل. وقد يكونُ هذا التَّحوُّلُ نتيجةً لتَداخُلِ الذَّاتِ مع الباب، أو إدراكِ البَطَل لحالةِ الانهيارِ الدَّاخليِّ التي تَجسَّدت في البيئة المَكانيَّة من حولِه.
في الختام، لم يكن الطَّرْقُ على “بابِ بيسوا” مجرَّد رحلةٍ لقراءةِ نصٍّ قصصيٍّ عابر، بل كان نافذةً مفتوحةً تُطلُّ على أعماقِ الذَّاتِ البشرية، ودعوةً للتأمُّلِ في الغموضِ الكامنِ وراءَ كلِّ بابٍ يُفتح أو يُغلق. يُصبِحُ “البابُ” في أعمال بيسوا مرآةً تُعكسُ فيها حقيقتُنا، ليدفعنا هذا النصُّ إلى مواجهةِ السؤالِ الأزليِّ: هل ما نقفُ أمامه حقيقةٌ ملموسةٌ، أم أنَّه انعكاسٌ لصراعاتنا الداخلية وصُوَرٍ من نسجِ عقولنا؟