الأديب / حفصة زاهي

النسخة الأولى القصة القصيرة

الأديب / حفصة زاهي

المركز الأول في فرع القصة القصيرة من دولة الجزائر

ذخيرة البؤساء

عتمتْ سماء البلدة، و اضطجعت المخلوقات في سباتها العميق، لم يهنأ الليل بسكونه، حين تعالى نُواح أبناء رشيد  جوعا و ظمأ، و صَفَرَت بطونهم ألما، يفترشون العوز و الشقاء أعواما طويلة، و يقتاتون من حاويات القمامة.. و فضلات البشر.. بلا امتعاض أو انقباض من حالها و حالهم النَّتِن، دخل كوخه مُنَكَّسَ الفؤاد.. حاملا حزمة من أوراق الشجر، بعدما خذلته اليوم آماله في إلتقاط قوت.. يحفظ كرامته من ذُلِّ السؤال، طبخت زوجته في قدر قليلة الماء و كثيرة الخواء.. أفراحَهم الملتهبة، فتذوقوا من كَرَم الطبيعة مرارة تسري في أجسادهم الواهنة، و قذفوا كل ذلك العلقم على مضض في بطونهم المُقْفِرَة، حتى يخفَّ أنينها.. و ترتاح آذانهم و قلوبهم من حسيسها، غَفَتْ عيون الصغار، استرسلت خيالاتهم في طمس الحقيقة و نسج أثواب السكينة و المرح، عَبَرَتْ عيناها و هي تُدثِّرهم بلحافٍ مُمَزَّق: سأقبل عرض صديقتي بالعمل مُنظِّفة لكلبها “جُوجُو”، أريد شراء جوارب صوفية، و خبز الشعير الذي اشتهاه أطفالنا ..و حساء الخضر…

ـ لن أرضى أن تعمل زوجتي مُنظِّفة للكلاب.

ـ و لكنه غير كُلِّ الكلاب يا رشيد، إنه “جُوجُو”..مئة دولار في الشهر، زوجها غنيٌّ و..

ـ قلتُ لن تنظفي قذارتهم.

طأطأ رأسه، و اضطجع مواريا ضعة نفسه و هوانها، كان كلامها صَدْقا تفوَّق على مبادئه المهترئة.. و رجله المبتورة، تذكر سريعا عجزه عن بعث الكرامة.. في بيته القصديري بعدما سُدَّت منافذ الإنسانية في وجهه، هَمْهَم بكلام مضطرب تأرجح بين السخط و الرضى و هو يسترق النظر إلى زوجته، صمت لسانه حين أدرك أنه من دفعها لأفكار مقزِّزة عن الكلاب و ذويهم…

كسر صوتُ طرْقٍ خافت و متواصل على الباب وحشةَ المكان، نهض الزوجان مذعورين، تضافرت أفكارهما لتحديد هوية الطارق، فقد أعرض عنهم القريب و الجار و الصاحب، و تحاشاهم ذوو النفوذ و المآرب، و صامتْ ألسنة البشر عن السؤال.. عن حالهم التاعس، صَدَحَ رشيد متفائلا: “قد يكون ربَّ عملي، جاء ليعتذر عن خطأه بطردي من ورشة البناء.. بعد أن فقدت رجلي، ربما يرغب بعودتي للعمل ثانية”، و لاحقت زوجته مرادها الأزلي: أو قد يكون أخي.. قد أخزى أطماعه الشيطانية، و قام بجلب نصيبي من الإرث…

اخترقَ صوتٌ مجهول أحلامهما، و هتفَ برواية غامضة أَنْسَتْهُما حقوقهما الربانية: أنا مبعوثٌ من مؤسسة خَيْرِية، نريدك في أمر مُهم يا سيّد رشيد..

“هل يمكن أن تكون ضربة حظ قوية، أو ملائكة نزلت من السماء في هيئة  بشر مُحترمين، هل سينتشلوننا من هذا المكان المقرف، ماذا أحضروا لنا؟! طعاما ساخنا أم ملابس دافئة.. لقد قالوا مؤسسة خَيْرية… “، هكذا ضجَّت الذبذبات اللطيفة المستضعفة في عقليْهما.. استبشارا، بدَّدها تَوَجُّس رهيب غامض، أطلَّ رشيد بوجهه البائس مرتاع الأحاسيس، فتح باب المواجع على مصراعيه أمام الغرباء، بادروا دون أن يمنحوه فرصة للحديث.. للرفض أو القبول.. إلى سرْد أحاجيهم عن الخير و الإحسان، و أنصت هو لأغرب أعجوبة كان قد سمعها في حياته، من فرط البلاهة و الحرمان اهتز كيانه، تحمست أساريره ، طار عقله و قلبه فرحا بالغنيمة: “معجزة من السماء يا زوجتي.. لقد انفرجت…” ، ثم خرج مع جماعة الخير إلى حيث الوادي الكبير.. وسط الغابة، أدخلوه خيمة كبيرة، كانت الأَسِرَّة مصطفة و كأنها ثكنة عسكرية، عشرات من الأجساد ملقاة عليها.. تتطلع وجوههم نحو الأفق.. بين التائه و الحالم و النائم.. و الواعي العاجز عن الكلام، اعتلى رشيد السرير الطبي، ارتعشت يداه، خفق قلبه خشية من الآتي، شعر أنه يُحتضر، أمسك يد الممرضة التي أتت لحقنه بالمخدر: هل أنتم متأكدون أنه لا خطر على حياتي من هذه العملية؟!

ـ لا داعي للخوف، ساعة واحدة و ستكون في بيتك.. و في جيبك ألف دولار.

اطمأن جهله، تلعثم لسانه، غاب عن الوعي، أفاق من غفوته، في سيارة مكفهرة.. يهتزُّ بعنف بين مطبّات الأرض، و تنتفض معه جروحه المتناثرة في جسده العليل، كان حوله رجال مبهمون.. يصرخون على السائق بغضب و قلق:” أسرع.. يجب أن نصل قبل طلوع الشمس.”، ازدادت آلامه مع كل تلك الضوضاء و الفوضى، تزعزع جسده.. و انطلقت آهاته: آه آه آه ..هل أخذتم كِلْيَتي؟! و النقود…

ـ اصمت أيها البليد، نقودك في جيبك…

أصوات فظَّة ..قلوب غليظة.. و أياد خفية أعادته إلى حضنه القديم.. ثم احتجبت عن الوجود، افترش رشيد ثانية حصيرته البلاستيكية.. يتصبَّب عرقا، طلب من زوجته إخراج النقود و عدّها.. “مئتي دولار.. فقط ، ربما أخطئوا، أو ربما سيعودون غدا لإتمام المبلغ، المهم أنني بخير”، هكذا حاول صرْف حيرته.. مستعينا بضحكات أطفاله، أطال الإمعان في عيونهم المنتشية أملا و فرحا، لكن أوجاعه استفحلت، و دوَّت صيحاته المتواترة المكان، كان لابد لزوجته من تجاوز ارتيابها حول ما حدث و ما يمكن أن يحدث.. بعدما شَحُب وجهه.. و ارتعدت أطرافه، و أُغمي عليه فجأة، صورته المريعة و هو محمول على جناح السرعة إلى المستشفى أنستها اندثار المئتي دولار.. بين سيارة الأجرة و تكاليف الليلة الأولى لزوجها في غرفة الإنعاش، اغتال قلبَها التقريرُ الطبي.. علمت بحاله الميئوس بسبب كِلْيَتِه الوحيدة و الضعيفة جدا.. بل و العاطلة عن العمل منذ زمن بعيد، أمسكت يده بحنان و رأفة، تلمَّست وجهه، ابتسمت لتضحياته الجنونية، حدَّثته معاتبةً حين أفاق فجأة:  لماذا سلَّمتهم كِلْيَتَك؟

ـ لأجل الألف دولار، كما أنهم أكدوا لي أن الكِلية ستتجدّد مرة أخرى، لقد ربحت النقود و الكلية معا.

انزوت إلى خيباتها تنتحب بلا كلل، صارت تُحدث نفسها ثانية بالعمل منظفة لكلب صديقتها، و بخطى متثاقلة.. سارت بها الفاقة إلى صالون الحلاقة، تَنَحَّت إلى ركن غير بعيد عن نساء البلدة.. تسترق السمع إلى أحاديثهن الناعمة، جلجلت ضحكاتُ صديقتها.. زوجةُ رجل الأعمال الشهير أرجاءَ البسيطة.. و هي تتقدم نحوها ببطء ..مختالة في مشيها و كلامها.. و ملاطِفَة زبونات صالونها البهي، و بلهفة حيَّتها:  عَلِمْتُ أنك لن تستطيعي الاستغناء عني يا رفيقة طفولتي.

ـ قبلتُ الوظيفة.. و أحتاج إلى النقود مسبقا.

ـ لا بأس.. و بهذه المناسبة السعيدة سأُصفِّفُ شَعرك.. لتصبحي من اليوم فصاعدا حارسة و منظفة كلبي جوجو…

ثم اقتلعت غطاء رأسها عن سبق إصرار و ترصد، انبهرت الأخريات بشَعرها الناعم.. و بريقه الفاتن، مأمأت إحداهن هياما بالمكسب النفيس : سأعطيك ثلاث مئة دولار مقابل هذا الشعر الأخاذ…

ردّت عليها بإذعان تام .. و الخصاصة تَلُفُّ تعابيرها الشجيّة: “خذيه.. إنه يليق بالحسناوات أمثالك…”، لاَنَت لقدرها المحتوم، و خارت قواها بعدما اُجتثت أنوثتها من جسدها النحيل، شردت أنفاسها حسرة، ثم غادرت مهزوزة الفؤاد.. حاملة مصاريف علاج زوجها، استقبلها الطبيب أسفا يُعزّيها في مصابها، فقد فارق رشيد عالمها بلا وداع، و فارقت بعده الحياةُ وجدانَها و أمانيها البريئة.. في لقمة عيش كريمة.. في وطنها العزيز.                   “كتبتها  الدكتورة حفصة زاهي”