تعاقبت ساعات الفجر الأولى، وتوالت دقائق مشحونة بصوت قريبتها كأنه يخرج من أجداث الحشرات الميتة في جدار غرفتها المتواضعة. صوت تملؤه موجات حقد ووعيد ويتصاعد منه دخان الغيرة وانعدام العقيدة.
هرولت لأبيها فرأته مفترشاً سجادة صلاة رافعاً ذراعيه متضرعاً لخالقه. جلست تنتظره لتروي له ما سمعته. وما أن أنهى صلاته وثنى مقدمة السجادة تاركاً منها آثار سجود والده المتوفى واضحة حتى تقربت منه واضعة رأسها بين ذراعيه فلعل هنالك بقايا من دعائه يحميها من مكر قريبتها. تغلغلت أصابعه في خصل شعرها, مهدئة من روعها باعثة فيها سكينة لم تدم طويلا.
دثرت نفسها بمونولوج قالت فيه “سلاماً لمن أشعل روحه بشموع الأبوة والحنين و إجلالا لمن كان أول صلاته دعاء لأبنائه، ومن كان آخر كلامه قبل نومه تضرعاً لربه سائلا إياه حماية أولاده وبناته, سلاما لمن لم يقفل قلبه لاحتواء هموم الآخرين, سلاماً لذلك الأب الفقير بماله الغني بخصاله.
وما أن أنهت حوراها الذاتي حتى بدأت شفتاها المترجفتان تقتربان من بعضهما ساردة ما سمعته أذناها من كلمات إبنة عمها عفاف. اضمحلت عيانا أبيها تارة، واتسعت تارة أخرى. بدأ يذكرها بطفولتهما عندما ساعدتها عفاف ودافعت عنها ضد بنات الحي اللواتي تكاتفن ضدها وحاولن ضربها وتوبيخها بكلمات وضيعة.
ذكرها أيضاً برحلة قاموا بها قرب القدس عندما خدع وشاحها يداها وحلق فوق الجدار الفاصل بين فلسطين المسلوبة وفلسطين التي يدافع شيابها وشبابها عنها حتى لا تسرق ويتشرد شعبها أكثر. ركضت وقتها عفاف خلف الوشاح محاولة استرداده لمسح دموعها.
سكتت لثوان معدودة وقالت: تلك طفولة يا أبي,. لم تكن بغضاء وقتئذ في قلوبنا, كان أكبر همنا هو اللعب والإستمتاع. لكن كل شئ تغير، فقلوبنا اتشحت بالسواد، وعقولنا قد إستعبدتها الضغينة. فأنت يا أبي تتكلم عن زمن كانت القلوب فيه تتحلى بعذريتها وتتفاخر بنبضاتها التي تبعث كل خير ووفاء.
نهض على ركبتيه طالبا منها الإنتظار. إتجه إلى غرفته وأحضر كتاب صغير كتب على غلافه قصص ألفتها الغربة. بدأ الأب يقلب صفحات الكتاب باحثا عن قصة معينة وراح يقرأ منها:
استيقظ من سباته، ارتشف قهوته، وتنعمت أذناه بصوت فيروز الصادح “إحكيلي إحكيلي عن بلدي إحكيلي!” انتعل حذائه، وأخذ حقيبته، وخرج إلى عمله مارا عبر حديقة مليئة بعبارات :”الرجاء عدم الاقتراب من الزهور”. ما أن وصل إلى الأمتار الأخيرة لاجتيازها، إلا ورأى وردة تنعمت بتراب الأرض، الخجل يأكل بتلاتها. اقترب منها طالبا أن تسامحه لأنه سيأخذها إليها. دافع شوكها تاركاً الدماء تسيل على ظاهر يده. لم يعي ذلك من فرحته. وصل إلى مكان عمله، وهرع إلى صنبور الماء ليعبئ كأسا ويضع الوردة داخله خوفا عليها من الذبول. كانت عيناه تسرق ملامحها التي لم ير نظيرا لها في حياته كلما مرت. خطواته تجذبته صوبها, لم يعد هنالك فرصة للرجوع، فهو على بعد متر واحد منها، حتى لو فكر بالفرار كانت ستنسبه للجنون والجبن حينها. رفعت رأسها للأعلى ظنا منها أنه عابر سبيل. جلس بجانبها والوردة في يده غير آبه بما ستقوله، وراح ينظر إلى زرقة السماء على وجه الماء الهائج ويحدث نفسه قائلا “ما أجمل صفار السماء وهدوء ماء البحر!” انتظر أن ترد باي كلمة، لكنها لم تتلفظ بأي شيء، بل حنت رأسها للرمال ضاحكة مقهقهة. تجرأ وسألها عن اسمها وإذ بها تدعى فيرونكا. مد يده وصافحها. الوردة في يدها وابتسامة ساحرة أضاءت وجهها. عرف عن نفسه :”أنا من هنالك، من أرض بلا شعب” هكذا يقولون! أبحرت النظر إليه وقالت: كيف أتيت إلى هذه الحياة؟ أولدتك الأرض؟ أم خلقت كما خلق مزمار بان؟ وماذا تفعل هنا؟ أتبحث عن شعب لأرضك؟ أم أنك تبحث عن أرض لشعبك العدم؟ مممم كما يقولون!
مر الوقت, غريبان يقتربان عبر حديث عفوي عن طفولتهما المليئة بالشقاء. هي تهوى اطلاق الطائرات الورقية وهو يجيد صنعها. تتمنى لو يعود بها الزمان للوراء لتستمتع بهوايتها المفضلة. التحليق هو الشي الوحيد الذي ينم عن حرية في زمن اعتقلت فيه الحرية وأعدمت, هكذا تقول. صمتت فجأة, وبدى عليها الحزن, اقترب منها أكثر وانتظر أن تخبره عما يدور في خلجاتها. رسالة من صديقة وصلتها تهريبا, جدار برلين , الذي التهم وحصد الآلاف ممن كانوا يتوقون لرؤية أقربائهم خلفه. كانت واحدة منهم, حيث يمنعها الجدار من رؤية صديقتها لأكثر من عشر سنوات. تتوق شوقا لناتالي, صديقة الطفولة التي لا تزال تحتفظ بالطائرة الورقية التي صنعتها لها في صغرهما. تتوق لرؤية من حجب ذلك العملاق وجوههم. كان ذلك السور حجرا في طريق القلوب المعتصرة ألما
من قصب الأرض وأكياس كان يحملها من هزم ذلك العملاق صنع لها طائرة ورقية, استطاع هزم ذلك الوحش الفاصل والعبور إلى الجهة الأخرى من الأرض. استطاع أن يصنع لها من رحم الأسر حرية ترسم على وجهها أطياف ابتسامات مكسوة بالنصر. كان ذلك الشيء البسيط كناسكاً استطاع أن يفتح أبواب قلبها. بدأت طائرتها بالإقلاع، وراحت الريح تداعب ذيلها بنسماته الرومنسية. بدأت تركض لتسيطر على طائرتها. تقدم لمساعدتها فإذا بشعرها الذهبي ينساب على وجنتيه. حاولت الإمساك بحبل الطائرة الورقية أكثر، فهي تعرف أن من زاد من عمر الحرية يوما هنا نقص عمره يوما. بدأت نقطة تفتيش تشارلي تميز ملامح فيرونكا الجميلة وشحذ الحراس أسنانهم لصيد ذلك الحمل الوديع. أنسته فرحته بها أنها تقترب من ذلك الوحش الذي شارف على عقده الرابع. بدأت تركض وتصرخ فرحا. استطاعت طائرتها الإفلات منها كأنها تشعر أن جزءا منها لا ينتمي إلى هذه الأرض. أدار وجهه وإذ بجنود الأرض المحروسة يكممون فاهها ويسحبونها إلى قلب العالم الآخر. وطائرتها تطير أبعد باحثة ًعن أصلها. حاول الاقتراب من الجنود ليساعدها لكن رصاص التهديد كان بالمرصاد. في بيته , شغل المذياع, ، فإذا بالمذيع يقول: اعتقال فتاة حاولت استخدام طائرتها الورقية للتجسس.
ألا تشبه هذه القصة قصتك؟ ألم تكن لهفتها عليك كلهفة هذا الشاب الذي لم يحجبه عن الموت سوى أمتار قليله وصوت أزيز البنادق المنذرة؟
لكنها تغيرت يأ أبي. فمنذ أيام كانت تحرض أخي وأمي ضدي. حنان قلبها قد إجتاز سن اليأس. لم أعد أستطع النظر إليها خوفا من أن أكرهها. وكلما شعرت أنها تزداد ضغينة، أهرع إلى ذلك الألبوم الذي يحتضن طفولتنا، أتمعن في براءة عينيها وأنكر أنهما ذاتهما اللتان تملؤهما كراهيتي الآن.
إستيقضت أمها من نومها على صوت الأب، إقتربت منه وعانقته. ماذا عن وجود إبنتهما؟ بدأت الأم تلقي بلومها على زوجها الذي لم يستمع لكلام إبنته عندما أخبرته أن عفاف تحاول إختلاق أي كذبة تؤذيها بها. حاول الأب إغلاق أذنيه متجنباً كلمات الأم المحملة بوخزات الضمير.
أثارت عيناه الخضراوان البريئتان شفقتها، وزادت من شقفتها عليه ذقنه الملونة بشقاوة السنين. ذهبت للمطبخ وأحضرت له كأس ماء، وضعت إبنتها جانبا، ومدت ذراعها لتسقيه. شرب مرة أخرى وأحاطته بذراعيها مرة أخرى، ولكن ماذا عن ابنتهما؟ طال عناقهما ما يزيد عن دقائق. عناق أكتظت به مشاعر لوم وحزن تارة، حب ووئام تارة أخرى. لم يتخيلا أن تكون الإشاعات الكاذبة ذات تاثير كبير على إخوتها. أو أن ذلك النغف الذي أتى من كل فج من ذلك الجدار في ذلك الحلم كانت إشارة لفتاة لم يكن لها ذنب إلا أنها ولدت في شعب أغلب رجاله كارهين للنساء. لا تأخذوا ما قلته على محمل الجد. فهم كارهين فقط لمن أتت من صلب أبيهم ولمن أرادت أن تشاركهم تركة أبيهم الذي لم يبق منه إلا اسمه في الطابو, هذا وإن وجد.
أصرت قريبتها على التحريض والإدعائات الكاذبة. وتلقى الأخوة تلك الادعاءات كأنها كتاب منزل غير قابل للشك أو التحريف. لم تشفع عيناها البريئتين لها، ولم يردع جسدها النحيل قسوة الأخوة وجلدهم المتواصل لها. لم يحجب سكوتها المستمر وأنين وجعها ضربات الأخوة. لكن أين الأب من ذلك الظلم. كم هي لقمة العيش نعمة لنا، وكم هي نقمة عندما تكون سبباً وراء اختفاء الأب لأيام بل أحيانا لشهور. فاعلم أن البيت الذي لا يكون ربه يطوف بطحاته يوما بيوم، ستبقى إناثه غالباً عرضة لطيش الأخوة، إن أرخوا سمعهم لأفواه أبت إلا أن تخرج أبطش أنواع الداء وأخطر أنواع السموم. فعاطفة الأب لا بد أن تكون هي الترياق والدواء لتلك السموم.
لم يتحمل كيانها الهش كل ذلك العذاب، ولم تتحمل صفاء روحها كل تلك العقلية العكرة. حاولت جاهدة تفنيد كل ما أشيع عنها، حاولت أن تميل لأخيها الأصغر كونه كما قيل ذو عقلية منفتحة ولم يأبه لأي مما يقال هنا وهناك. لكن ليست هذه المرة، فعرضه قد هتك من مجرد حديث بين أخته وذلك الوهم الذي لم نعرف عن إسمه شي، أقصد الشاب الذي اختلقته قريبتها لإيذائها. وهنا يبدأ العبد يحلل قضية القتل ولم يعد هنالك حرمة في وأدها.
لم ينته عهد قريش، ولم تمت تقاليد ذلك القوم وجاهليته. لم يقنع القرآن تلك العقول المتحجرة وتلك القلوب القاسية أن الوأد قد دفن، فكلمات الرب قد حفرت له حفرة ورمت فوقه التراب وأصر البشر على نبشه وإحيائه من جديد.
أحالت نفسها للوحدة، فلعل الأمان يكون هناك. لكن أصر الأخوة أن يفسدوا عليها خلوتها. ولم يسكت ذلك الفاه الشرير ، ولم يتوقف ذلك العقل المريض لقريبتها عن الإستمتاع بعذابها. كلما ازدادت كلمات القريبة، كلما تألمت تلك الروح واحتد وجع الجسد. لم يكن يرافقها في لحظات الوحدة سوى صوت القريبة وصورة حنظلة المعلقة على ذلك الجدار البسيط. كم دفعها ذلك العذاب أن تتمنى أن تكون مثل حنظلة وتنعم بالركود في مقبرة بروكود.
بدأ جسمها يتضائل وعظامها تتآكل. وما كان من الأخوة إلى أن حملوها للمشفى في سيارة من نوع اوستن ١١٠٠. تحلت بالصبر والدعاء. حاولت أن تمانع الذهاب للمشفى خوفا من أن يستجوب إخوتها. كانت تتحمل العذاب منهم وتخاف عليهم العقاب أيضا. كيف يجرؤون على القيام بذلك الفعل؟
عاد الأب يحتضن ابنته وهي تنظر إليه وإلى أمها بلا حراك. حاول الأب تقبيلها كثيراً لعل القبل توقظها. سقطت دموع الأم على خدي إبنتها سارة ولم تستطع حتى مسحها. ولم تبك على بكاء والديها. طلب الأب من الأم بحسرة وحرقة أن تبدل ما على ابنته من ثياب. وما كان منها إلا أن ذهبت للغرفة محضرة إطاراً وشريطا أسوداً. أخرج الأب صورة ابنته المتوفاة من إطارها القديم وألحقها في الإطار الجديد مغلفا أحدى زواياه بالشريط الأسود حدادا على روحها البريئة.