الأديبة /سلمى النور أحمد النور

النسخة الثالثة القصة القصيرة

الأديبة /سلمى النور أحمد النور

المركز الثالث في فرع القصة القصيرة من دولة السودان

الوباءُ

 

الوباءُ

 

ما زلتُ أشكّ في حقيقة الوباء رغم ما يُصرّحُ به علماءُ الصّحة وما يتناقله العامّة من أخبار تُنذر البشرية  بالفناء القريب..

ولم أجد من أسرتي الصغيرة مَن يُشاطرني وجهة نظري حتى الآن، بل تلقّيتُ من أبي هذا الصباح صفعة كادت أن تكسر فكيَّ بعدما وجدني خارج عتبة البيت ببضع خطوات لا أرتدي الكمامة الواقية.. أما والدتي التي اعتدتُ منها على الحلم واللطف لم تكن أقلَّ توترا وارتباكا من أبي، فهي الأخرى، نهرتني كذا مرَّة حين كنتُ أدافعُ عن فكرتي مُتذرّعا بحُججٍ لا تفهمها..

أدركتُ بعدئذٍ أنَّ التلفاز أقدرَ منّي على إقناع أهلي بأنَّ الفيروس قاتلٌ لا محالة، وأنَّ المُتمردّين على هذه الحقيقة الطارئة هم من يَجنون على أهاليهم وذويهم، فقلتُ لنفسي بعدما عجزتُ عن الجهر بآرائي:

  • أتُصدّقان إعلاميًّا يقولُ ما أُمِرَ بقوله حتى يُحافظ على مكانه في المحطة الإذاعية وتكذّبان فلذة كبدكما الذي أفنى عُمرَهُ في طلب العلم؟

مع مُرور الوقت، تفاقمت أنباءُ الوباء لتتخذ صفة جديدة تبُثّ الرَّعب في نفوس الخلق، وأصبحت دول العالم الأول والثاني في مُعاناةٍ سابقة مع الجائحة.. فلم يتوانَ المسؤولون عن إشاعةِ أرقام مُهولةٍ لضحاياهم.

أمَّا قنواتنا الفضائية بعالمنا الثالث فما بخلت بإعادة نقل أزمة الأسياد الخانقة على مستوى الصحة والاقتصاد حتى قال أحد خبراء الصحة عندنا ذات يوم إذ يرتدي كمامة بيضاء لا تُشبهُ تلك التي يضعها عامّة الشعب: أيُّها الشعب العظيم.. لقد بات الأمرُ يستحيلُ للأسوأ لحظة بعد لحظة، وعلينا أن نتّحد ونمتثل لإرشادات السلطات المحلية كي نخرج من هذه الجائحة العالمية بأقلّ الأضرار.. وينبغي لنا أن نُصارح أنفسنا بحقيقة تخلفنا.. فالمستشفيات عندنا غير مؤهلة لاستقبال أعدادٍ كبيرة من المصابين، فنحنُ نعاني نُدرة الأكسجين وقلة الأسرَّة والطواقم الطبية.. لذا أهيبُ بكم الصبر والثبات والمكوث في منازلكم إلى أجل قريب..

لعلَّ الجملة الهامة من خطاب المسؤول هي آخر ما نطق بهِ.. وهي التي أصابت والدي بحُمّى أقوى من حُمّى الفيروس، فجعلتهُ يلعنُ وزارة الصحة والجائحة وكلّ شيء تقريبا.

لم يتمالك أعصابه لمّا مضت على قعدته  في البيت نحو ثلاثة أشهر.. يُراقبُ حركات أمي من الغرفة إلى المطبخ، ويرنو بقلقٍ إلى صُندوق التوفير أكثر من عشر مرّات في اليوم، فيتحسّر على حاضرهِ ومُستقبل أسرته في آنٍ، فالنقود آخذة في النفاد، والمُتطلبات اليومية آخذة في الصعود، وليس ثمة بارقة أمل تلوح لناظريهِ في خطابات المسؤولين صباحَ مساء.. فلم يجد المسكينُ بُدًّا من تنفيس كربتهِ عن طريق زوجته وأولادهِ الأربعة، فصرخ في وجوهنا الشاحبة من فرط تناول الخبز والزيت ذات ليلة:

ما لكم تأكلون أكل البقر وتشربون شرب البعير؟ أنسيتم أنَّ أباكم مُجرّد عامل مُياوم لا موظف عمومي؟

وأرادت أمي تهدئته بلسانٍ كلسان الحكومة:

  • لا تقلق يا أحمد.. فقد قيلَ أنَّ الوباء اللعين سينحسرُ بعد أسبوع إن شاء الله.
  • عليكِ اللعنة أنتِ وهُم والوباء.. أما تزالين تتوهّمين زوالهُ يا امرأة؟ أنا أحدثكم عن حالنا البائسة وأزمتنا الخانقة لا عن أولئك الحمقى.

وبعد صمت، أردف:

  • علينا بالصوم حتى نوفّر ممّا تبقى من المؤونة. فصوموا تصحّوا.

وكما هي عادتي، حملتني جرأتي الزائدة على مُساعدتهِ قائلا:

  • إذا هو صيامُ سيّدنا داوود عليه السلام.
  • لذ بالصَّمت يا عالة.. هذا الذي تُحسنُ صنعَه دائمًا، لغوٌ فلغوٌ..

كنتُ أنتوي الردّ عليهِ بأدبٍ غير أنني خفتُ أن تنالَ خدّي صفعة ثانية، فاتَّشحتُ بالسُّكون صامتا كالبقيّةِ.. وقلتُ في نفسي: ليتكَ صدَّقتني منذ البداية يا أبي..