في رواية أكَلة الموتى، هل واجه أحمد بن فضلان إنسان النياندرتال؟
ساره الجنيدي*
* كاتبة محتوى من الجمهورية العربية السورية
ملخص:
استعان مايكل كرايتون، من كتّاب الخيال العلمي، في روايته “أكَلة الموتى” بملحمةٍ جرمانيةٍ وثنيةٍ، دُوِّنت على شكل مرثيّةٍ شعريةٍ باللغة الإنجليزية القديمة ما بين القرنين السادس والثامن الميلاديين، كإطارٍ عامٍ تخيليٍ للزمان والمكان والأحداث. وبنى حبكتها وشخصياتها اعتماداً على تحقيقٍ مُفترَضٍ لمخطوطة رحلة أحمد بن فضلان إلى مملكة الصقالبة في القرن العاشر الميلادي.
كان هدفه المعلن هو صياغةٌ مشوِّقةٌ لتلك الملحمة الأسطورية للقارئ المعاصر دون أن يشعرَ بالملل عند قراءتها، لكننا نشهد إدخاله لمفاهيمَ علميةٍ تطوريّةٍ عند مطابقة صفات وسلوك “شعب الويندول” الذي صارعه أحمد بن فضلان ورفاقه من المحاربين الفايكنج مع إنسان النياندرتال.
في هذا المقال، نشير إلى أنّه كان يحاول تقديم تفسير موضوعي لأحداث الملحمة الجرمانية بإسقاطها على تحوّل البشرية من المجتمع الأمومي إلى المجتمع الأبوي وما رافق ذلك من صراع دموي.
الكلمات المفتاحية:
أكَلة الموتى، أحمد بن فضلان، مايكل كرايتون، المحارب الثالث عشر، إنسان النياندرتال، شعب الويندول، بوليويف، جريندل، بيوولف.
مقدمة:
ربّما كانت الرواية المثيرة للجدل “أكَلة الموتى” (Eaters of the Dead) الصادرة عام 1976م، وفيما بعد فيلم “المُحارب الثالث عشر” (The Thirteenth Warrior) المنتج عام 1999م والمبني على أحداثها، هما من سلّط الضوء لدى الجمهور العربي على مخطوطةٍ عربيةٍ قديمةٍ بعنوان “رسالة ابن فضلان: في وصف الرحلة إلى بلاد الترك والخزر والروس والصقالبة”، التي كتبها أحمد بن فضلان بن العباس بن راشد بن حمَّاد البغدادي كتقريراً – كما يُعرف في المصطلحات المعاصرة – عن مرافقته كمدوِّنٍ وفقيهٍ لوفدٍ أو “سفارةٍ” أرسلها الخليفة العباسي المقتدر بالله (895م-932م) عام 921م إلى ملكِ دولة الصقالبة.
وأهل الصقالبة هم بلغار نهر الڤولغا بالقرب من مدينة كازان، عاصمة جمهورية تترستان الواقعة في جمهورية روسيا الاتحادية اليوم، وليسوا في البلقان. وقد أشهرَ ملكهم إسلامه حديثاً آنذاك (لعيبي، 150، 2021م). كان هدف الوفد أن يحمل للملك هدايا وأموالاً، بناءً على طلبٍ مُسبقٍ منه، ليبني مسجداً في مملكته، وحصناً يحميها من هجمات دولة الخزر اليهودية المُنافسة، وكذلك لتلقين أهل مملكته تعاليم الإسلام.
قادت تلك السفارة ابن فضلان في رحلةٍ استكشافيةٍ قدّم فيها رواياتٍ مفصّلةً عن الجغرافيا، وظروف الطقس، والملابس، والشعوب والجماعات التي واجهها، ولقاءاته مع قادتها حتى وصوله مملكة الصقالبة. وفي الرواية – وليس في المخطوطة – تصل الرحلة إلى مسارٍ لم يكن في الحسبان، إذ بعد أن طارده قطاع طرق، تبدأ أحداثٌ مثيرةٌ بوصوله إلى معسكر شعب الفايكنج، وهم من جرمان شمال أوروبا، ليعيش ابن فضلان أجواءً غرائبيةً يلعب فيها دوراً مميزاً.
عموماً، تصف الرواية لقاءً عاصفاً وتلاقحاً نادراً في تاريخ العصور الوسطى بين ممثلي حضارتين متناقضتين: الإسلام في العصر العباسي ووثنية شمال أوروبا، يتحدان معاً في معركة حياةٍ أو موتٍ ضد شعبٍ غامض.
كاتب الرواية، مايكل كرايتون (أو كريشتون) Michael Crichton، من أشهر كتّاب الخيال العلمي، وهو مؤلف “الحديقة الجوراسية” (The Jurassic Park) التي كانت سبّاقة في إطلاع الجمهور – ولا سيما بعد تصويرها سينمائياً – على جهود المختبرات العلمية في مجال البحوث الوراثية.
في “أكَلة الموتى”، كان كرايتون يخوض تحدي تحويل قصيدةٍ ملحميةٍ مملةٍ إلى روايةٍ مثيرةٍ اعتماداً على أحداثٍ حقيقيةٍ (الحالول، 2، 2024م)، تبيّن بالبرهان أنّها مُختلقة بشكلٍ كبير، وأنّ الكاتب لم يعتمد على رسالة ابن فضلان إلا في الفصول الثلاثة الأولى من روايته، وغيّر كثيراً من مجريات تلك الفصول ولا سيما مسار رحلته من بغداد إلى مملكة الصقالبة.
عُثر على مخطوطة ابن فضلان – وهي مُتلفة بعض الشيء، لذا لا تُعتبر كاملة – عام 1924م، وتُرجمت إلى الألمانية عام 1939م، وحقّقها من جديد الدكتور سامي الدهان، وصدرت الطبعة الأولى في دمشق عام 1959م. وبمراجعتها ومراجعة اقتباسات ياقوت الحموي (1178م-1228م) لفقراتٍ منها في “معجم البلدان” – والتي تُعد من الإشارات التراثية المعدودة لمخطوطة ابن فضلان قبل اكتشافها، ونالت اهتمام المستشرقين بشكلٍ خاص – تبيّن أن فصول الرواية المتعلقة بلقاء ابن فضلان بمقاتلي الفايكنج وخوضهم معاً معارك ضد شعبٍ متوحشٍ وغامضٍ غير موجودة. وتمّ التحقق من اختلاق مايكل كرايتون لهذه الأحداث، وببرهان زيف وجود محققٍ نرويجي يُدعى الدكتور “بير فراوس دولوس”، اعتمده كرايتون كمرجعٍ رئيسٍ في روايته تلك (لعيبي، 154، 2021م).
رغم أنّ روايته من نمط الخيال الأدبي، ويحق للكاتب اجتراح أحداثٍ غير حقيقية، لكن وجب على كرايتون الإشارة إلى ذلك بشفافيةٍ دون أي تلاعبٍ بعقل القارئ لِما في ذلك من إساءةٍ لمصداقية الرواية ومصداقيته على وجه الخصوص. إذ إنّه من دواعي الحنق أن يكون “فراوس” بالرومانية هي إلهة الخيانة والخداع، و”دولوس” في اليونانية هو إله الاحتيال والحيلة، وبالتالي فإن “بير فراوس دولوس” تعني بألطف التعابير “من أجل الخديعة”، و”بير” هو مقطع لغوي نرويجي تمت إضافته ليعطي للاسم مصداقيةً لدى الجمهور.
الرواية:
يمكن اعتبار الرواية خيالاً أدبياً مُبهراً، ودمجاً لأحداثٍ من مصادر مختلفة، أضاف إليها كرايتون تخيلاته لأمورٍ تاريخيةٍ مثيرةٍ للجدل، وكان لها تداعياتٌ عديدةٌ في الأوساط الثقافية.
يمكن تلخيص هذه المصادر والخيالات والآثار بما يلي:
أولاً – مخطوطة أحمد بن فضلان:
مصدرٌ رئيسيٌ للرواية، يمتاز بالأصالة التاريخية. تلاعب كرايتون بأحداثها وأضاف إليها أحداثاً جديدة ليوحي للقارئ بأنها من أفضل مصادر المعلومات عن حياة الفايكنج في القرن العاشر الميلادي.
من الاختلاقات الرئيسية ما رواه كرايتون بأنّ ابن فضلان، عند عثوره على معسكر الفايكنج، قام بالانضمام على مضضٍ إلى فريقٍ من اثني عشر فارساً يقودهم زعيم الفايكنج المدعو بوليويف (Buliwyf)؛ في مهمةٍ لمساعدة ملكٍ محليٍ يتعرض لهجوم من أكلة اللحوم البشرية الذين دعاهم بوحوش الضباب وشعب الويندول. وكان ابن فضلان المحارب الثالث عشر، لأنه من غير شعب الفايكنج، وذلك لضمان النصر حسب اشتراط عرّافةٍ محليةٍ تُدعى “ملاك الموت” (الحالول، 1، 2024م).
بعد سلسلة معاركٍ عنيفةٍ تنتهي بالقضاء على شعب الويندول والأم المقدّسة ومقتل بوليويف، يعود ابن فضلان لاستكمال رحلته إلى مملكة الصقالبة.
ثانياً – قصيدة “بيوولف”:
هي أطول قصيدة إنجليزية قديمة، وهي عبارة عن مرثيّةٍ شعريةٍ تسرد أحداث ملحمةٍ جرمانيةٍ وثنيةٍ تمجّد سيرة بطلٍ من الفايكنج يُدعى “بيوولف” (Beowulf). من المرجّح أنها كُتبت بروحٍ مسيحيّةٍ بقلم خطاطٍ أنجلو-ساكسوني ما بعد عام 597م (تاريخ أول بعثة مسيحية بين الأنجلوساكسون) وقبل عام 793م (وهو تاريخ بدء غزوات الفايكنج لإنجلترا، إذ تمّ تمثيلهم بطريقةٍ وديّةٍ في القصيدة على عكس توصيفهم ما بعد سيطرتهم على إنجلترا). وكُتبت باللغة الإنجليزية القديمة التي أُزيلت من الاستخدام العام بعد أن أصبحت الفرنسية النورماندية اللغة الرسمية الثانية لإنجلترا بعد اللاتينية حوالي عام 1000م (فيجرودزكا، 11، 2016م).
يقوم بيوولف في هذه الملحمة، بناءً على استغاثة ملكٍ محليٍ أيضاً، بالتصدي لوحوشٍ أسطوريةٍ، وتنتهي المعارك بمقتله منتصراً والقضاء على تلك الوحوش، ومنها جريندل وأمّه المقدسة وتنين.
وكالإلياذة، يمكن وصف القصيدة على أفضل وجهٍ بأنها وصفٌ لأحداثٍ تاريخيةٍ بطريقةٍ أسطورية. ومع أنّ شخصية بيوولف أسطورية، وبعض معاركه كانت مع وحوشٍ أسطوريةٍ كجريندل وأمّه والتنين، فقد تمّ إثبات وجود العديد من الشخصيات الرئيسية في القصيدة من ملوك العصور الوسطى المبكرة الذين لعبوا أدواراً حاسمة في تاريخ أوروبا من خلال نصوصٍ أخرى باعتبارهم قادةً تاريخيين حقيقيين (كاروذرز، 37، 1998م).
استعان كرايتون بهذه القصيدة الملحمة كإطارٍ عامٍ لتلك المواجهات التي عاشها ابن فضلان مع الويندول برفقة المحاربين الفايكنج وعلى رأسهم زعيمهم بوليويف، مستبدلاً بهم شخصيات الملحمة الجرمانية.
ورغم التشابه في الخطوط الرئيسية، فإنّ “بوليويف كرايتون”، زعيم الفايكنج الذي رافقه ابن فضلان، يختلف بالاسم عن “بيوولف القصيدة”، بطل الملحمة الجرمانية. فبوليويف حارب الويندول الذين يرتدون جلود الدببة ويأكلون لحوم البشر في أربع معارك، ويُقتل في النهاية نتيجة لسعة أفعى كانت تتسلح بها الأم المقدّسة للويندول في المعركة الرابعة. بينما يُقتل بيوولف بعد أن يخوض ثلاث معارك في فتراتٍ زمنيةٍ متباعدة: معركتين مع الكائن الأسطوري جريندل وأمه، وأخيراً معركةً ثالثةً تنتهي بفوزه على تنينٍ أسطوري.
ثالثاً – الإشارات الأنثروبولوجية:
كان من مُخرجات حشر كرايتون لأحداثٍ وهميةٍ، كلقاء ابن فضلان مع محاربين (وليس تجار) من الفايكنج والذهاب شمالاً لقتال الويندول، نتائجٌ أخرى.
إذ إنّ تجيير كرايتون للقاء ابن فضلان بمجموعةٍ ممَّن يُسمِّيهم “الرُّوسيَّة”؛ واصفاً إياهم بطوال القامة كالنخيل، “شقر حُمر” وأسلحتهم الفأس والسكين، بأنهم قبيلةٌ من شعب الفايكنج يقيمون على ضفاف نهر الفولغا، ينحاز لجدلٍ إثنيٍ عميقٍ بين الباحثين الأوروبيين منذ منتصف القرن التاسع عشر. فمنهم من يرى أن من قابلهم ابن فضلان هم أنفسهم الروس من العرق السلافي المعروفون باسمهم اليوم، بينما يرى البعض الآخر أنهم من الفايكنج.
ويعود الأمر إلى خلافٍ كبيرٍ بين المؤرخين الأوروبيين حول أصل الشعوب التي تسكن روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا حالياً. ويعتنق معظم المؤرخين نظرية “الشماليين” التي تنصُّ على أن مؤسِّسي “مملكة كييف روس” هم من الفايكنج، بينما يرى المعارضون أن مؤسِّسيها كانوا من السلاف (لعيبي، 153، 2021م).
رابعاً – البصمة التطورية:
الويندول محاربون شرسون يعيشون تحت حكم “أمهم” المقدّسة، قاتلهم ابن فضلان برفقة بوليويف، ووصفهم بما يلي: “شعبٌ قصير، قبيح، كريه الرائحة، لكنه قوي البناء ويبدو أنه لا يعرف الخوف. يرتدون جلود الدب، ويهاجمون بشكلٍ جماعي، ويقتلون بشكلٍ عشوائي، ويأخذون رؤوس ضحاياهم، دون ترك أي قتلى أو جرحى وراءهم”.
هذا الوصف الجسدي والسلوكي على لسان ابن فضلان لهذا الجنس البشري في القرن العاشر الميلادي يمكن تأويله إلى أنهم من بقايا إنسان النياندرتال. وهذا يقودنا إلى افتراضٍ – لم يتم التحقق منه حتى اليوم – بأنّ إنسان النياندرتال قد استمر في الوجود في أماكن معزولةٍ في أوراسيا حتى فتراتٍ قريبة.
لنتذكر أنّ هذا الوصف منسوبٌ لابن فضلان، ولم يُذكر في مخطوطته الحقيقية التي راجعها الدكتور سامي الدهان أو أيٍ من اقتباساتها عند ياقوت الحموي أو غيره. بل – كما أسلفنا – ذكره تحقيقٌ وهميٌ لمخطوطة ابن فضلان بقلم شخصيةٍ وهميةٍ هو الدكتور النرويجي “بير فراوس دولوس” الذي اختلقه كرايتون.
لنناقش هذه الفرضية: ماذا أراد كرايتون من هذا التوصيف للويندول على لسان شخصيةٍ تاريخيةٍ حقيقية؟ وما أوجه شبه الويندول بإنسان النياندرتال؟ وكهدفٍ بعيد، هل هناك إسقاطٌ على أسطورة بيوولف؟
ماذا أراد كرايتون؟
يشير كرايتون بطريقةٍ غير مباشرة – بل يترك للقارئ أن يستنتج – بأن إنسان النياندرتال ربما كان موجوداً منذ فترةٍ طويلةٍ بعد تاريخ انقراضه المفترض الذي يُعتقد عموماً أنه بين 20000-40000 سنة قبل الميلاد، أي في زمن وقوع الرواية في القرن العاشر للميلاد.
رواية “أكَلة الموتى” الصادرة عام 1976م سَبقتْ الاكتشافات الجينية والأثرية التي تُظهر أنّ البشر لديهم أصولٌ “نياندرتالية” كبيرة (ساندرز، 1، 2024م). ونلاحظ أنّ وصف كرايتون (على لسان ابن فضلان) للويندول يوحي بتشريح إنسان النياندرتال، ويثير الشك حول ما إذا كان إنسان النياندرتال قد اختفى بالفعل من على الأرض منذ آلاف السنين!
أوجه الشبه بين “شعب الويندول” وإنسان النياندرتال:
أولاً – المظهر والسلوك:
شعب الويندول قصيرٌ وقبيح، يقطن في الأماكن الضبابية ويأكل لحوم البشر. يملك النياندرتال تاريخاً تطورياً طويلاً، إذ تعود أقدم حفريةٍ مكتشفةٍ لإنسانٍ شبيهٍ بالنياندرتال إلى نحو 430 ألف سنة. أما أفضل آثارهم المكتشفة فتعود إلى الفترة من 130 ألف إلى 40 ألف سنة قبل الميلاد، وبعد ذلك اختفت آثارهم من الوجود.
عاش النياندرتال في امتداد قارة أوروبا وجنوب غرب ووسط قارة آسيا إلى جانب الإنسان الحديث فترةً من الزمن تُقدر بـ 7000 سنة. كان يسكن الكهوف والمغاور الطبيعية، وقد أُثبتَ حديثاً أنّ بعض اللقاءات الحميمة حدثت بينهما. ونتيجة لذلك، ورث بعضنا من غير الأفارقة نحو 2% من المادة الوراثية للنياندرتال، كلون البشرة، ولون الشعر، والطول، وأنماط النوم، والمزاج، وحتى الإدمان وبعض الأمراض (ساندرز، 1، 2024م).
يتميز جسدهم القصير المكتنز بتكيّفه مع البيئة الباردة التي عاشوا فيها، ويتصف بجمجمةٍ مستطيلةٍ مسطحةٍ مقارنةً بالجمجمة الكروية للإنسان الحديث، وجذعٍ عريضٍ وسيقانٍ وأذرعٍ قصيرة، مع وجهٍ مميزٍ يحتله أنفٌ عريضٌ كبير.
يقتات النياندرتال على الثمار، ويطهو النباتات ويأكل اللحوم النيئة للحيوانات التي يصطادها. وقد وُجدت لُقىً أثريةٌ تفيد بأنه من آكلي لحوم البشر.
ثانياً – النظام الاجتماعي:
النياندرتال بشرٌ مثلنا، لكنهم ينتمون إلى نوعٍ خاصٍ من البشر يُسمى إنسان النياندرتال أو “هومو نياندرتالينسيس”. كان “شعب الويندول” يقدّس أمه، أي أنّه يعيش تقاليد المجتمع الأمومي. وبينما يُعتقد أن نشأة المجتمع الأبوي كانت في الفترة من حوالي 3100 إلى 600 قبل الميلاد (ياسين، 1، 2021م)، مما يدل على أنّ إنسان النياندرتال كان يعيش في ظل المجتمع الأمومي.
ثالثاً – علاقتهم بالدببة:
كان دب الكهوف والدب البني وإنسان نياندرتال متنافسين محتملين على الموارد البيئية كالمأوى والطعام في أوروبا، في فترةٍ يعود تاريخها إلى ما يقل عن عشرات آلاف السنين. وقد تمّ اكتشاف أدلةٍ تشير إلى تفاعلاتٍ متداخلةٍ بين البشر والدببة. وتؤكد اللُقى الأثرية الحجرية الخاصة بالنياندرتال وجود عمليات قطعٍ وذبحٍ وتناولٍ للحم الدببة والحصول على فرائها (روماندني، 1، 2016م).
الخلاصة:
إذاً، يمكن الاستنتاج بأن كرايتون وبطريقةٍ مواربةٍ أدخل إنسان النياندرتال في المعارك الحاسمة التي خاضها ابن فضلان وبوليويف ورفاقهم ضده. وبالتالي يمكن الإجابة على عنوان المقال: نعم، لقد تخيّل كرايتون مواجهةً حربيةً بين ابن فضلان والنياندرتال!
الإسقاط على أسطورة بيوولف:
بتلميح كرايتون إلى أن الويندول يمثّلون نوعاً بشرياً منقرضاً، لعله يدعو إلى إعادة تصوير الكائنات الأسطورية في الملحمة الجرمانية وصراع بيوولف معهم في سياق التطور البشري وانقراض بعض الأنواع.
ربّما هذا هو الهدف الأخير لكرايتون: إسقاطٌ معاصرٌ لأسطورةٍ قديمةٍ بغية اكتشافها من جديد لتفسير حقيقة أحداثها.
الإشارة الحاسمة هي المصير الفاني لأم الويندول المقدسة، التي قدّمها في روايته كساحرةٍ أو شامانيةٍ، كنهاية الكائن الأسطوري المتوحش “أم جريندل” في الملحمة.
من المعروف أن العديد من القصص والأساطير حول التنانين والوحوش الأخرى، كأم جريندل، ربما كانت رمزاً لصراعاتٍ مختلفة، غالباً بين شعوبٍ من أعراقٍ وثقافاتٍ متباينة. وغالباً ما ترمز التنانين وما شابهها إلى دياناتٍ تعتمد على الآلهة، كما يفترض بعض العلماء (زاركا، 1، 2022م). وقد تم إبراز ذلك في الرواية عندما يحمل محاربو الويندول نسخاً صغيرةً من “فينوس ويلندورف”، وهي إلهةٌ من العصر الحجري القديم.
ومن الجدير بالملاحظة أن مايكل كرايتون كان أيضاً منتجاً ومخرجاً للأفلام، وشارك شخصياً في إنتاج فيلم “المحارب الثالث عشر”، بل وفي إعادة تصوير بعض مشاهده. فهل كان يحرص على إبراز تفصيلٍ ما؟
في الرواية، يهاجم محاربو الفايكنج بقيادة بوليويف برفقة ابن فضلان الويندولَ ويقتلون “أمهم” المقدّسة عندما عثروا عليها في كهفٍ مع تمثال إلهةٍ عملاق. وهذا يسقط الرمزية في الملحمة الجرمانية – أي في قصيدة بيوولف – وفق الرؤية التالية: أن جريندل وأمه والتنين لم يكونوا أكثر من مجرد رموزٍ لثقافاتٍ مختلفة. وأنّ هذه الملحمة، بأدوات كتّابها على مرّ العصور، ما كانت إلا تصويراً لصراع ثقافاتٍ مختلفةٍ ومتنافسةٍ ضمن سلسلة التطور البشري. وليست نتيجتها إحلال ثقافةٍ مكان أخرى، بل إبادة عرقٍ وثقافته على يد عرقٍ آخر أكثر تطوراً وتكيّفاً.
وبالتحديد، في سياق نظرية التطور – والتي يعتبرها البعض أسطورةً حديثةً أخرى – من المثير للانتباه أن كلاً من صراع بوليويف مع الأم المقدسة للويندول، وصراع بيوولف مع أم جريندل، قد فسّره بعض العلماء على أنه يعكس التغلب على المجتمع الأمومي من قِبَل المجتمع الأبوي اللاحق بالوجود، وهو الأكثر هرميةً ويهيمن عليه الملوك والمحاربون.
الخاتمة:
نجح مايكل كرايتون في إمتاع القارئ المعاصر بروايته التي تستقي إطارها العام من ملحمةٍ جرمانيةٍ وثنيةٍ دُوِّنت في أطول قصيدةٍ باللغة الإنجليزية القديمة. وباعتباره كاتب خيالٍ علميٍ من الطراز الرفيع، زرع أفكاره الخاصة بشكلٍ غير صريحٍ عن احتمال العثور على جزرٍ معزولةٍ لإنسان النياندرتال في أزمنةٍ تقع خارج التاريخ المفترض لانقراضهم. وقد قدّم رؤيةً علميةً تفسر أحداث تلك الملحمة على أنّها كُتبت في سياقٍ تطوريٍ كتنافسٍ بين ثقافاتٍ وأعراقٍ مختلفة، تمّت صياغتها وفق أدوات التعبير عند الإنسان القديم.
إقرار:
هذا النص حديثٌ وغير مترجمٍ ولا منسوخٍ، ولا يعتمد على الذكاء الاصطناعي، ولا يعاني من الانتحال. تمّت كتابته للاشتراك في مسابقة الدكتور عبد الرحمن العبد الله المشيقح الأدبية 2025م – فرع المقال الأدبي.
المراجع:
-شاكر لعيبي، “رحلة ابن فضلان الأيديولوجيا والتخليط”، المورد – العدد الثاني– 2021 المجلد 48.
-شادي ياسين، ” معالم النظام الأبوي”، المركز الديمقراطي العربي، 29 ديسمبر 2021.
-موسى الحالول، ” رحلة ابن فضلان بين الحقيقة والخيال والوهم (1 من 2)”، صفحة تلفزيون سورية- 16/3/2024.
-موسى الحالول، ” رحلة ابن فضلان بين الحقيقة والخيال والوهم (2 من 2)”، صفحة تلفزيون سورية- 23/3/2024.
– Carruthers, Leo M. ,”Beowulf”, Didier Erudition, 1998.
– JADWIGA WEGRODZKA, “BULIWYF FOR BEOWULF: MICHAEL CRICHTON’S EATERS OF THE DEAD”, KWARTALNIK NEOFILOLOGICZNY, LXIII, 3/2016.
– Matteo Romandini et others,”Bears and humans, a Neanderthal tale. Reconstructing uncommon behaviors from zooarchaeological evidence in southern Europe”, Volume 90, February 2018, Pages 71-91, Journal of Archaeological Science.
– Emily Zarka, “Terrifying dragons have long been a part of many religions, and there is a reason for their appeal”, THE CONVERSATION, 24/8/2024.
– Robert Sanders,” Neanderthals and humans lived side by side in Northern Europe 45,000 years ago”, US Berkeley news ,31/12/2024.