الأديبة / إيمان عبدالكريم الرزوق

النسخة الأولى المقال الأدبي

الأديبة / إيمان عبدالكريم الرزوق

المركز الثالث في فرع المقال الأدبي من دولة الكويت

لماذا يصرُّ الشّعراءُ الحداثيّون على مهاجمة الشّعر العمودي ؟!

 

منذ منتصف القرن العشرين ، و مع صدور ديوان ( لن ) للشّاعر اللبناني أنسي الحاج عام ١٩٦٠،

بل ربّما قبلَ ذلك بقليل  ,

أي مع صدور كتاب (poème en prose

المترجم بعنوان (قصيدة النثر )

للناقدة الفرنسية سوزان برنار ،

و الذي اعتبر قصيدة النثر أداةَ تمرّدٍ ضدّ  نظامٍ كاملٍ من الأعراف الفنّية و الاجتماعية ،

و حتى اليوم ، و الصّراع ما يزال مستمرّاً بين أنصار الخليل بن أحمد الفراهيدي و أعدائه ،

فمع ظهور ما يُسمّى بقصيدة النثر ، و التماع بعض أسمائها ك ( أدونيس ) و ( يوسف الخال ) الذي تبنى قصيدة النثر في مجلّته التي كانت تصدر آنذاك في لبنان ،

و غيرهم

بدأ الكثير من جيل الشّعراء الشّباب حتّى أولئك الذين كانت بداياتُهم عموديّةً صرفة ،بالانزياح نحو الكتابة الحرّة بمختلف مسمّياتِها ،

بل تعدّاه إلى الانسلاخ من كلّ ما يُسمّى ((قيوداً )) على حدّ تعبيرهم ،

و اللجوء إلى المساحات الشّاسعة التي لا يحدّها وزنٌ و لا قافية،

بل و لا حتّى أي التزام أدبي تجاه السجلّ العظيم من القصائد العموديّة التي بنتْ موروثَنا الفكريّ و العلميّ و الأخلاقي ،،

متجاهلين أنّ الثّورةَ الشكليّة التي حملوا راياتِها قد انشغلت بشكلٍ  خاص بالبُعد التّقني و المظهري من المشكلة الشعريّة ،،

و لم تتطرّق كما ينبغي إلى الأبعاد الجوهرية لها ،

و بالرّجوع قليلاً إلى ( نازك الملائكة ) و ( بدر شاكر السيّاب )

و غيرهم ممّن ابتكروا شعر التّفعيلة ،

نجدُ أنفسَنا كشعراء و كقرّاء نقفُ باحترامٍ و إجلال لهذا الابتكار الأنيق ،

فهو لم يتخلَّ عن الموسيقا الشعريّة ،التي هي من ركائز القصيدة العربية ، بل كثّفَها تكثيفاً سلِساً و أنيقاً ، و متناسباً مع مفاهيم العصرنة و القصيدة المغنّاة ،

و أيضاً بالنّسبة للقافية ،

فهو لم يتنازلْ عنها بل نوّعَ فيها و عدّد ،لذا فالشّعراء بشتّى اتجاهاتِهم عموديّةً كانت أم نثريّة ، لا يختلفون كثيراً حول جمالِ التفعيلة و موضوعيّتها ،،

و لكنّ الاختلاف الحقيقيّ قائمٌ بين شعراء النّثر و شعراء العمود ،

فبينما يرى أنصار النّثر أنّ القصيدة الحرّة بشكلِها النّثريّ هي نتاج تطوّر طبيعي و تفاعلات حداثويّة طرأت على الشّعر العربي بسبب الإطّلاع و الاختلاط بالآداب العالميّة ،

و يرَوْنَ أنّ هذه المتغيّرات ضرورةٌ ماسّة لكي لا ينتابَ هذا الجنسَ الأدبيّ السّكونُ و الانحدار ،

فهي حالةٌ مكمّلة للحركة الشّعريّة الحديثة و تفاعلاتها “على حدّ تعبيرهم ”

و هم لا يرونَها ابتعاداً عن القصيدة الموروثة بقدرِ ما يرونَها لجوءاً إلى الرّمزِ العميق و السّهل المُمتنِع ،،

بينما يصرّ شعراءُ العمود على أنّ الشّكلَ التّقليديّ للقصيدة العموديّة هو أساس الشّعر العربي ،و من لا يكتب القصيدة العموديّة في نظرهم لا يُعتبَر شاعراً حقيقيّاً ،

بل و منهم من ذهب أبعد من ذلك ، إلى رفضِ تسمية نصّ النثر بالقصيدة النثرية ،، و اعتبارِها مجرّد ترجمات لنصوص غربيّة لا تمتّ للشّعر العربي بصِلة ،،

 

أمّا إذا  أردْنا أن ننظرَ للأمرِ من زاويةٍ حيادية ، سنجدُ أنّ الجمالَ الحقيقيّ يكمنُ في الإبداع ،

و الإحساس الذي يستطيعُ المبدعُ أن يوصلَهُ لقارئه ،،

و الفكرة التي يمكن للمتلقّي أن يسبَحَ في تأمّلها ،،فمهما اختلفتِ الأشكال يبقى الجمالُ جمالَ الطّرح و المضمون ،،

و تبقى الأولويّةُ للرّسالة التي يحملُها الأدبُ هذا  إذا اعتبرنا أنّ الأدبَ رسالة ،،

فلا يمكنُ لأحدٍ أن ينكرَ التجديد و العبقريّة في الكثير من القصائد العمودية المعاصرة ،

و الكثير من الأسماء اللّامعة لشعراء معاصرين لا يكتبون إلّا شعراً عموديّاً ،،

و في نفس الوقت لا ننكرُ الومضات الإبداعية التي نجدُها لدى كتّاب النصّ الحرّ ، أو قصيدة النثر ،

أو حتّى لدى كتّاب ( الهايكو العربي )

الذي وصل إلينا عن طريق ترجمة النّصوص اليابانية ، و الذي يُعتَبَر مؤسّسُه هو الشّاعر الفلسطيني عزّ الدين المناصرة  عام ١٩٦٤، في قصيدتيه هايكو تانكا ،، و توقيعات ،،

و هذا النّوع من الكتابة يعتمدُ على الومضة الشّعريّة الخاطفة ،،  و الإيحاء المركّز ،،

و لكن من باب الإنصاف ، نقول للشّعراء الحداثيّين الذين يظهرون في كلّ المناسبات ليهاجموا العمودَ و فرسانَه ، و يتّهموه بما ليسَ فيه ،من أنّ الدّهرَ عفا عليه ،

أو أنّه لا يستطيع مواكبةَ المواضيع و المصطلحات المعاصرة ،أو أنّه محدودُ الصّور و الأفكار و مقيّدٌ بقيود الوزن و القافية ،

نقولُ لهم

من المُشينِ أن تسعى كلُّ شعوبِ العالم للافتخارِ بتُراثِها و إرثِها الفكريّ و الحضاريّ و إظهاره للقاصي و الدّاني ،،

بينما نسعى نحنُ و بمحاولاتٍ شرِسة إلى تقليدِ الأشكالِ الشعريّة المستوردة ،

و  رَدمِ الشّكلِ الأصيل للقصيدة العربيّة ،،

كما نقول أخيراً

إنّ الشّاعرَ المُبدع لا يقيّدُهُ الوزن ، و لا تحدّه القافية ،

بل يطوّعهُما معاً للوصولِ بنا إلى قصيدةٍ تُطرِبُ آذانَنا بموسيقاها

و تُطرِبُ أرواحَنا بإحساسِها ،

و تُطرِبُ عقولَنا و مخيّلاتِنا بأفكارِها و صوَرِها ،،

 

 

بقلم د.إيمان عبد الكريم الرزوق