الأديب / يوسف العيشى ميمون

النسخة الرابعة المقال الأدبي

الأديب / يوسف العيشى ميمون

المركز الثالث في فرع المقال الأدبي من دولة الجزائر

 

قناة التوتر المعرفيّ بين الجاحظ ومكسيم غوركي ..

 

كنت بصدد تحضير درس أقدمه لطلبتي في حصة الأعمال الموجهة, فوجدتني من أجل ذلك أخوض في الجاحظ وكتابه البيان والتبيين, ذلك كونه أحد أهم مصادر الدرس الأدبي والنقدي واللغوي. في هذا الكتاب بالتحديد تناول الجاحظ العديد من القضايا, ومن هذه القضايا ما تعلق بالشعر والنثر معا, ألا وهي قضية اللفظ  والمعنى, ومن قرأ كتاب البيان والتبيين سيكتشف كيف أنّ الجاحظ انحاز للفظ أكثر لكن مع ضرورة أصالة المعاني, على العموم وبعدما خلصت من تحضير الورقة التفت فإذا بي أجد كتابا كنتُ قد اقتنيته من معرض سيلا للكتاب قبل سنتين, وكان الكتاب رواية لمكسيم غوركي بعنوان (الأشرار) قام بترجمتها سعد توفيق, هذه الرواية احتوت على مقدمة مغرية لـ (الدوس هكسلي) مقدمة يتمنى أي كاتب الظفر بمثلها لكي يُفهم من خلالها, تماما مثل الخدمة التي قدمها هكسلي لغوركي حين وضعه بصورة واضحة جلية أمام قرّائه.

ما ذكرني بالجاحظ  وأنا أقرأ هذه المقدمة المثيرة هو ما استشفه الدوس هكسلي من خلال ترجمة أعمال غوركي الكثيرة, إذ نجده يقول “إن أوّل ما يبدوا لنا هو أنّ غوركي يعتني بالنسيج اللفظي قدر عنايته بالمضمون, لقد عرفنا كتّابًا عظاما ومصورين لا يعبؤون كثيرا بالشكل, ولكننا عرفنا أيضا كتّابًا و مصورين مثل رامبرندت أو شاردان لا يقل الشكل عندهم عن المضمون معنى وتعبيرًا, وغوركي ينتمي إلى الفريق الثاني”[1].

هذه المقولة جعلت الجاحظ فجأة يقف أمام تصوري في مقابلة غوركي, وذلك جعلني أتساءل إن كان ثمّة من تناص عابر للزمن في التفكير بينهما! فالجاحظ اهتم باللفظ كما أوردنا وشدّد كذلك على أصالة المعنى نثرًا كان أم شعرًا, وغوركي من خلال مقولة الدوس هكسلي كذلك وفّق بينهما, وهذا ما يضعنا أمام نتيجة تقول بأنّ الهدف لكليهما واحد وهو الإخراج السليم للمتن, لكن هل يجوز لنا القول بأن غوركي تابع لمدرسة الجاحظ ولو كان ذلك بالمصادفة! إذ يستبعد أن يكون مكسيم غوركي قد وقع على كتاب البيان والتبيين!

الوارد من هذا الاتفاق العابر للزمن بين الجاحظ  ومكسيم غوركي, يقول بأنّ ظروف كل منهما مهدت لظهور شخصيتهما الأدبية المتفردة, فالجاحظ  ويتمه ودمامة شكله – كما يروى في الكتب  -جعلانه يسعى إلى فرض نفسه في الوسط الأدبي في البصرة, وحين نقول البصرة فإنّنا بذلك نعني حاضرة العلم والعلماء آنذاك, وكذلك مكسيم غوركي, فيتمه هو الآخر ووفاة جدته والمرارة التي كان يعيشها في ظلّ حكم القيصر ومعافرته الدائمة من أجل كسب قوت يومه, كلّها أمور جعلت منه يسعى أيضا لكي يفرض نفسه وشخصيته في الأدب الروسي, ذلك في وقت كان الأدب في أوجه, ويكفي أن نذكر كلّ من أنطوان تشيخوف وتولستوي في هذه الفترة.

وكما تشارك الجاحظ  وغوركي في قضية التوافق بين اللفظ والمعنى, فقد تشاركا كذلك تقريبا كما رأينا في إرهاص النشأة, فاليتم والفقر تطابقا بينهما, وكما كان قبح الجاحظ حافزا لإثبات الذات وفرضها كانت مرارة العيش هي الأخرى حافزا عند مكسيم غوركي, الذي اعتمد اسمه المستعار غوركي أساسا ليترجم به واقع حاله المعيشي خصوصا إذا ما علمنا بأنّ غوركي في اللغة الروسية تعني (المر), كذلك يمكننا إضافة وجه لا أدري إن صح الافتراض بأن نعدّه نقطة تلاقٍ بينهما, وهو قضيتا الاعتزال والواقعية الاشتراكية, فكما هو معروف عن الجاحظ  بأنه معتزل وبأنّ التعريف الأساس في الاعتزال كما اتفق عليه هو إعمال العقل في البحث, كذلك نجد مكسيم غوركي حين أسس للواقعية الاشتراكية وتبعه فيها بعد ذلك العديد من الأدباء, وإنّنا إذا ما قلنا الواقعية فإن ذلك يقودنا هو الآخر إلى ذات الأساس ونعني بذلك إعمال العقل.

إنّنا ومن خلال استقراء هاتين الشخصيتين يتبدى للقارئ الفاحص كيف يمكن للمدرسة الأدبية الواحدة أن تنشأ في أكثر من مكان وأكثر من زمان دونما اتفاق, ذلك أنّها ترجمة صريحة لمحيط المبدع الماديّ والمعنويّ معاً, إذ لا يمكن بأيّ شكل من الأشكال فصل الإبداع عن محيط نشأته. ومثل الجاحظ ومكسيم غوركي الذين قدّما للساحة الأدبيّة العالمية ما لا يجارى أو يمارى, نموذجيين حقيقيين لمفهوم تواصل الفكرة المنهج عبر التاريخ, ونموذجين أصيلين لكيفية تلاقي الثقافتين العربية والغربية في مفهوم التوتر المعرفيّ, هذا الأخير الذي يقود لا محالة إلى الكشف الأدبيّ, عن اللغة والإنسان, عن العالم بكل مرتكزاته.