لم أكن صغيرا لهذه الدّرجة حتى يطلبا مني الذهاب إلى غرفتي وإقفال الباب ! أ لا يعلمان أنّ هذا المشهد يخُصُّني أيضا؟ وأنّني مللتُ البقاء خلف الباب كقِطعة ثلج تَسقي الأرض وهي تحتضر، أنتظر نتيجة حوار طويل يُضمِر كلَّ خبايا الفلاش باك، لقد أصبحَ لغرفتي 101 بابا مُوصدا بإحكام، مئة عام وأنا أبحث عن طريقة لفتحها دون جَدوى، جُدرانها بيضاءُ رغم أنَّ الأسود يليق بها بشكل يَقتُل الأحلام قبل فِطامها، نوافذها هاجرت مع آخر صِرب حمامٍ حَلّق نحو عَدَمِ زِيكُولا، وسقفها بعيدٌ عن كل عازفِ أمل، تَتَسَيَّدُ غرفتي مِرآة كلّما نظرتُ إليها وجدتُ التّجاعيد قد احتلّت مملكة مُحَيَّاي، وشَعري مَالَ نوع بياض ذمِيمٍ لا حسنات له ولا عَطايا، أمَّا مُقْلَتَاي فقد اسودَّ أسفلهما عِرْفَانا بطول السَّاعات التّي أسهرُ فيها أفكّر في طريقة لكي لا أفكّر، الغريب أنّني أرَى كلَّ هذا في مِرآة غُرفتي فقط ! ويعود جسدي إلى طفولته عندما أغادِرُها مُتوجِّها إلى أيّ مكانٍ آخر! كل الأمكنة رَحيمة بي.. إلاّ غرفتي التي تَبْدُو كثيفة بأزهار النرجس وعَبَّادِ القمر.
…
سَئِمْتُ من هذا الرّسّام الكَافْكَاوِيِّ الفاشل الذي لا يملكُ من الألوان إلاّ الأسود ! يظلُّ يرسمنا ببشاعة كلما رَاقَهُ نَهْرُ الدُّمُوع الذي يَمُرُّ من وسط باحة مملكتنا، هذه المملكة التي لازالت تنتظرُ حصان طرْوَادا بفارغ الصبر، لعل بَصِيصَ الأمل مُخْتَبِئٌ داخلَ ذلك الحصان مجدّدا، يتفنّن هذا الرَّسّام في وَسْمِ الجروح على أجسادنا، وقِيادة مُحاولة انقلاب النّدوب المُشوَّهة على جلالة سيدِنا الجمال، ولا يرسم فمي إلا بطرفين يميلان نحو الأسفل ! يحرِّكني كما يشاء، وأكرهه كما يحلو لي وأشاء. لازال الحوار مُحتدِما بين اللذين أمِرْتُ أن أبَرَّهُمَا ! مشهدٌ نَمَطِيٌّ تَخْتَلِسُهُ مُقْلَتَاي، تَختلفُ الأسباب ولكن تفاهتَها واحدة، وسذاجتها مُنَمَّقَة بين تَصَيُّدٍ واقتِنَاصٍ لأشْبَالِ المشاكل وكَتَاكِيتِهَا ! كلُّ ما سيقوله أبي أعرفه وأحفظه عن ضَهْر قلب، ولم أكن أوَدُّ أن أعرفهُ حقّا، لأنه يُدَمِّرُ كل شيء جميل بداخلي، يقتلُ ذلك الطفل الساذج مرَّتين، ويُحَمِّلُنِي ما لا طاقةَ لي به، يُعَكِّرُ صَفْوَ سعادتي وأنا أمرح رفقة أصدقائي، حتّى أصبحتُ أفضِّل الخلوة وحدي أسيرا داخل مِقْصَلَةِ غُرفتي، أحاول حلَّ مشاكلَ ليست لي ! ولكنَّها تَسرقُ حاضري وتجعلني أَهَابُ سُلطة المستقبل أيضا. يُخِيفُنِي عِنَادُ أمّي كثيرا، أودُّها أن تصمتَ حتّى لا يَنْفَذَ صبرُ ذلك الرَّجل، وتَنْفَذَ آخر قطرات الأمل في أن أكون طفلا مثل جميع الأطفال، يا ليتها تأخذ العِبرة من الأريكة الموجودة في أقصى بَهْوِنا، أو من الوسائد التي وُضِعَت عليها، أو من صورة جدِّي التي عُلّقَت على الحائط، يا ليتها تقلّدُها في صمتها وثَبَاتِهَا، لعلّ السِّجال يكون قصيرا وتَمُرُّ هذه السَّحَابَةُ السَّوداء بسلام، ليس لي رغبة في أمطار قويَّة تُهَشِّمُ مَشَاتِلِي البريئة، أراقب أبي من خلال فتحة الباب، أراقب شفتيه حتى لا يَنْطِقَ بعبارة ستُدَمِّرُ كل ما أملك، عبارة سمعتها مرتين، ولا أوَدُّ سماعها للمرة الثالثة حقا، هذا الحوار مؤجلٌ دَهرين…
…
لا زال صوتهُ يَصْدَحُ في أرْجاء منزلنا المُظلِم، يُهدِّد فخامة الصَّمت ويُصَوِّبُ فَوَّهَةَ مُسدَّسِه على جَبْهَةِ الهُدوء وهو راكع خاضع ! يغادرني ذلك الاطمئنان الذي يَهْجُرُني دائما كذاك الصَّديق الوَفِيِّ الخائف، كلما أرتفع صوتُ أبي تَزِيدُ سرعة نبضات خَافِقِي المَكْلُوم ! ألا يعلمان أنَّه ليس لي في هذه الدنيا سواهما بعد خالقي؟! لقد اشتدَّ الحوار حتّى أصبحتُ أنتظر النهاية كيفما كانت، أود أن أتخلّص فقط من مرارة التَرَقُّب وخُبْتِ الانتظار، لابدَّ لي من حَلٍّ يُنْهِي هذا المشهد، وحِيلَةٍ تَمْنَعُهُ من زيارتنا في يوم آخر، لأنَّه ضيفٌ ثقيل جدّا. لا يَمَلُّ الاثنان من النّظر إلى تلك البِرْكَةِ التّي تُحيطها أزهار النّرجس ! يتأمّلان في فخامة الذات وعَرْشِ الأنا.. ولكن من يفكر بي أنا ؟
كلّما مَدَدْتُ نَاظِرَيّ لم أجد من الحلول إلاّ نافذة تُطِلُّ على الشّارع الرئيسيّ، تَخَلَّفَت عن صِرْبِ الطّيور التّي هاجرت غير سعيدة بما تعيشه في هذا المنزل، نافذة لعينة تَمرَّدت على قرار الجماعة ! وخالفت رأي الكلّ ! لكنَّها تَبْدُو الحَلَّ الأنسبَ بالنّسبة لي، كأنَّها كانت تعلم بحالي، فقررت البقاء لتحريري من هذا الجحيم الملعون، لم يَعُد خَافِقِي يستطيعُ الصُّمود لِلَيْلَةٍ أخرى، حتَّى جسمي أصبحَ هزيلا كأنَّه يرفضُ الحياة، غريبٌ أن يُطالبني شخصٌ بالأكل في الصباح والشمس شاهدة على ذلك ! وهو الذي يَحْرِمُنِي طعم الحياة في اللّيل أمام صِرْبِ من النّجوم التي لا تكذب! غريبٌ أن يُعَاتِبَنِي على دَرَجَاتِي المُتَدَنِّيَةِ وهو الذي يُدَمِّرُ تفكيري و يَقْصِفُ أبراج عقلي ! ويَدْفَعُنِي للتّركيز في بعض المشاكل التي يَزرعها في أرضي، وأنا الذي لا أملك خِبرة في موسم الحَصاد !
…
إنَّها نافذة النَّجاة ! أَلَمٌ سأعيشهُ لِلَحْظَةٍ ولكنَّهُ سيكون جِسْرْي نحو الخَلاَص الأبَدِيّ، لعلَّ الاثنين بعدها يعرفان مرارة أن تسمع حوارا يَخصُّكَ ولا تستطيعُ المُشارك فيه حتّى بصمتك، إنّها الرِّسالة الأخيرة التي لا تَقْبَلُ الرَّد، سأَقِفُ مُنتظِرا على حَافَّة النّافذة، حتَى أسمعَ أبي يُرَدِّدُ تلك العبارة اللعينة، كذلك النَّاسِكِ الذي شَمَّرَ رِدَاءَهُ وهو يعلم أن صاحبة الرِّدَاءِ الأسودِ سَتَحْرِمُهُ الصّلاة، ثمّ أرَدِّدُ أنا صلاتي وأموت مرَّة ثانية.
المشهدُ من هنا حزين بالنسبة لي، وبَاسِمٌ بالنّسبة للمارَّة على جَنَبَاتِ الشّارع والأزقّة ! أليس لي حَظّ ذلك الفتى الذّي يُمْسِكُ بِيَدَي أمِّه وأبيه؟ يتأرجح في الهواء كلّما أرادا مُداعبته لكي يشاهدا ابتسامته العفوية، ويظلّ هو سعيدا حتّى يَتْعَبَ، فيَتَسَلّقُ جِسم أبيه إلى عرين حُضنِه التميم، ولا تَقْبَلُ أمه بهذا الوضع بل تُدغدِغه أسْفَلَ قدميهِ طامحة في ابتسامة أخرى ! فيبتسمُ عٍرفانا لهما بما يُقدِّمان، إنّه مشهدٌ يدفعني للإيمان بفكرة الخلاص، وصورة تَسْقِي حَقْلَ مُعتقداتي السابقة، ليست لي حياة هنا، حياتي انتهت يوم قَرَّرْتُ أن أفكّر.
لازلتُ انتظرُ تلك العبارة لكي أنهي كل شيء، لكنَّ الصَّوت انخفضَ عَكْسَ المُتَوَّقَعِ ! واستعادَ الصَّمت عَرْشَهُ في منزلنا من جديد، سمعتُ صوتا صارما يناديني من أسفل الجُبّ:
هَيَّا اخرُج من غُرفتك لِتَتَنَاوَلَ طَعَامَكَ بِسُرْعَة !
عن أيّ طعامٍ تتحدثان؟! سوف أخرجُ لكي أُمثّل معكم هذا المَشهد بإتقان، ثم أعود إلى غرفتي لكي أعيش الواقع، صحيح أنَّ النافذة أقفلت اليوم ! ولكنها سَتَفْتَحُ لي أحضانها غدا أو بعد حين…