الأديبة / ساندي ياسر عدلي

النسخة الأولى المقال الأدبي

الأديبة / ساندي ياسر عدلي

المركز الأول في فرع المقال الأدبي من دولة مصر

العنوان:النوستاليجا اكتئاب أم ابتهاج

“طيري يا طيّارة طيري.. يا ورق وخيطان بدّي إرجع بنت صغيرة.. على سطح الجيران وينساني الزمان.. على سطح الجيران” هكذا كانت تنشد جارة القمر فيروز، عندما التقطت مسامعي نغماتها صدفة لأول مرة، لا أذكر كم كان عمري، ولكني كنت أصغر من أن أعي ما تقوله فيروز، وبالرغم من ذلك تملكتني الألحان وكأن لقلبي أوتاراً تعزف على مقاماتها الأغنية، كم تمنيت حينها أن يشتري لي أبي طيارة من ورق وخيطان مثل تلك التي تحكي عنها فيروز كي ألعب بها على سطح الجيران، مشهد طفولي لطيف أليس كذلك؟، والغريب أنه دق على رأسي منتصف يوم مكتظ بالضغوط والمشاحنات، ولكنه جعلني انعزل بضعة دقائق عما تضيق به نفسي، وأحاطني بذات الشعور؛ شعور الطفلة التي تتمايل بفستانها القصير قرب شباك خشبي مرقش بزخرفات عربية مع نغمات لا تفهم أحرفها، كل منا يعايش لحظات كهذه، كل يسترجع مجموعة من المشاهد الماضية الدافئة دون قصد أو إعداد، فمن منا لا يحن إلى عشية العيد، وصباح رحلة مدرسية، وقلاع رملية على الشط، وأوقات سعيدة محفوظة داخل إطار فوتوغرافي، ومشاعر حماس حبست عن أعيننا النوم ترقباً ليوم آت، وقطعة موسيقية اقتسمناها سوياً، وابتسامة كانت على أفواههم مضوية، وصوت المذياع قبيل أذان الفجر، ورائحة مسك ملء الدار، وحكاية ما قبل النوم، وتلك اللقطات

المصورة التي تعرض أمام عينك كشريط الفديو في اللحظة الراهنة، هذا الشوق؛ أي نزوع نفسك إلى شيئها وتعلقها به، كل ذلك وأكثر تشملهم كلمة واحدة لم تعد غريبة علينا، مشاعر أعمار أشخاص تلخصها حروف يونانية قديمة ألا وهي النوستالجيا”.”

يعود مصطلح النوستالجيا إلى اليونانية القديمة، وهو مركب من جزئين:νόστος أي الشوق، و ἄλγος بمعنى الألم، ويشير إلى الحب الشديد للعصور الماضية بشخصياتها وأحداثها، والشوق إلى الماضي بشكل عام، ظهر مصطلح النوستالجيا على يد طالب الطب “يوهانس هوفر”عندما لاحظ بعض الأعراض المرضية والاضطرابات على المرتزقة السويسريين الذين يعملون لصالح الجيوش الأجنبية، بالأخص في فرنسا وإيطاليا، فلقد عانى المرضى آنذاك من حمى شديدة، وآلام في المعدة، وعسر الهضم، بالإضافة إلى ضربات قلب غير منتظمة، كما أدت الأعراض إلى وفاة بعض الحالات، لم يجد هوفر أي تفسير فسيولوجي لهذه الأعراض، فغير مسار دراسته للحالات، إذ اكتشف أن ما يقاسيه المرضى يعود إلى أسباب نفسية، وفي عام 1688 أطلق هوفر ما يسمى بمرض “النوستالجيا” أو “الأبابة”، إذ يعاني المريض من الألم إثر حنينه إلى وطنه وأهله وخوفه من عدم تمكنه من العودة إليهم أبداً، وفي بدايات الحقبة الحديثة وصفت النوستالجيا على أنها شكل من أشكال الاكتئاب. لاحظ الأطباء انتشار أعراض مرض النوستالجيا بين الناس مع زيادة حركات الهجرة في جميع أنحاء العالم، وتغير مفهوم المعالجين النفسيين عن النوستالجيا على مر العقود، حيث شمل المصطلح مفهومين رئيسين: الحنين إلى الماضي بشكل عام، واستحضار تجربة أو أحد مشاهد الماضي السعيدة، كما لاحظ الأطباء خلال تجاربهم أن النوستالجيا تخلف آثار إيجابية، وتعزز الحالة النفسية، عوضاً عن إثارة الكآبة في النفوس، إذ تم التعامل معها واستخدامها بطريقة صحيحة، ومن هنا تحولت النوستالجيا من مرض يؤدي إلى الوفاة -إثر الحنين المؤلم للوطن- إلى حالة عاطفية ذات طابع رومانسي يستحضر فيها العقل بعض الذكريات المفرحة التي تخلق لنا عالماً أجمل وسط حاضر أكثره قبيح.

لم اخترت أن أكتب عن النوستالجيا؟ ما الغرض من إعطاء كل منا وقته فيما يتعلق بهذا المصطلح؟ ألأسرد بعض المعلومات المرصوصة جانب بعضها البعض بعناية؟ أم لألقي بعض الأفكار غير المألوفة وحسب؟، في الحقيقة لم أنو هذا ولا ذاك، بل أني أردت أن أشاطركم طريقة فريدة من نوعها غير مؤذية في استرجاع جمال ما مضى، وودت أن أشارككم كل صورة ماض ذهبية تعصف أمام كل منا في الوقت الحالي، كما عزمت أن أثبت لنفسي قبلكم أن ما ارتحل منا او تغربنا عنه ليس بضروري أن يقف في الحلق كالشوكة، بل من الممكن أن يطبب ما أصاب النفس من عطب، كما يجوز أن يربت على الكتفين كمن يواسي حبيبه، وفي ظني أننا نستحق بعض لحظات الخلاص المنعشة من كل ما حولنا؛ لأننا نشعر أحياناً بالوحدة، وربما نخاف من الغد، وبين الفينة والأخرى يراودنا شبح الفشل، كما تنهك عقولنا مما تراه كل يوم من نكبات، وفي هذه الأوقات بالتحديد يستخدم العقل الحيلة النفسية التي تسمى النوستالجيا، إذ يقوم باختيار مشاهد الماضي ويدمجها  بطريقة ما بعد أن يصفيها من كل ما يشوبها من ألم ويضيف عليها ما يجعلها أبهى، ومن ثم يعرضها لنا دون وعي منا أو إدراك، ولا يتعلق الأمر بالذكريات، ولكنه يتمحور حول استرجاع شعور طيب متعلق بمجموعة صور أو مشاهد تنتمي إلى الماضي، وتبدأ صور النوستالجيا في بث حسن المشاعر التي عشناها يوماً أمام أعيننا مما يقلل ما بأجسادنا من توتر، ولا يقتصر دورها على ذلك فقط بل تتمادى أكثر كي تصفع الألم المهيمن على النفس، ليسري محله دفقات عزم ترغمنا على النهوض من ركام العجز، مما يلهمنا القوة للوقوف من جديد أمام ما يضنينا، كما تعمل النوستالجيا على غزل بعض لحظات النجاح السابقة، كي نتذكر لماذا بدأنا من الأساس ما نتكاسل عن مواصلته الآن، وعندما ندرك من أين ولم بدأنا، نستطيع أن نواصل ولو عادانا العالم ومن فيه، نشعر وقتها أن لنا قيمة، ولايزال في أيدينا أن نجعل لأعمارنا ثمناً لا يستهان به، وتباعاً ندرك أن للحياة قيمة، فبالتأكيد لم يخلقنا الله تبارك وتعالى عبثا،ً كما تدفعنا النوستالجيا إلى القتال من أجل خلق أيام أجمل مما فات، وتحرضنا على الاندماج مع الحاضر من أجل أن نوفر لأنفسنا ولأحبائنا مستقبل أزهى عن طريق القوة التي نستمدها من انجاز حققناه في عهد سابق، والعجيب في هذه المسألة أن النوستالجيا التي يختزلها الناس في محض صور كلاسيكية لها وقع أعظم وأشمل من لوحة أو لفتة قديمة.

هكذا نحن -البشر- نشتاق ونتوق إلى لحظة سعيدة، أو ضحكة صادقة، أو صوت دافئ، أو رائحة بأريج الوطن، وليس لعيب فينا، بل لجميل في فطرتنا لم نسمح لندبات الدرب أن تقتلعه منا، والحنين الأكبر من كل ما ذكر أعلاه، وهو الأقرب لقلبي وأكثر ما يرضيني، هو الحنين إلى الأماكن التي لم نزرها قط، والأحداث التي لم تسنح لنا الفرصة أن نعايشها، وكذلك الشخصيات التي لم نعلم منها سوى السيرة الطيبة، فنحن نصبو إلى أراض عربية تخلو من دنس الاحتلال، ونتشوق إلى مرأى أصحاب القضية خارج السجون، ونتوق إلى سماع أصوات قضبان قطار كان ينطلق من القاهرة حتى القدس العتيقة، وتنازعنا أنفسنا إلى عدل كعهد الفاروق، بكل بساطة نحن إلى إنسانية تهلك بأراضيها أعلام الظالمين، وتعلو فيها ضحكات الأطفال، ومهما نثرت من أشياء نشتاقها بالرغم من عدم إدراكنا لها من قبل، لن أوفي كل ذي حق حقه، استمتعت بكل حرف كتبته، وهذه المرة الأولى التي أعبر فيها عما بداخلي تجاه كتابة شئ ما، واتمنى من كل قلبي أن تنالوا إثر قرائتكم لما كتبته قسطاً من السلام، والطمأنينة، والوداعة، أسعد الله جميع أوقاتكم، ووهبكم سنين مليئة بالبركات والرضا.