وصل إلى مقرِّ الشركة قبيل بدأ المعاينات بقليل، كان المكان مكتظا بالحضور؛ كأنه صالة عرس!
لم يجد بُدًّا من الانتظار ساعات قبل الدخول للجنة، فاسمه يزين آخر القائمة المليئة بالعشرات؛ شبابا وشيبة، رجالا ونسوة..
آثر أن يغتنم هذا الوقت في أخذ قسط من النوم؛ إذ لم يمكنه الخبير الاقتصادي والسياسي والمفتي الديني الذي كان يقود سيارة الأجرة أن يغمض عينيه هنيهة بنقاشاته وجدالاته في كل المواضيع طوال الرحلة التي انطلقت قبل بزوغ الفجر..
أرخى ظهره خلفا على الكرسي المهترئ في مؤخر القاعة مصدرًا صريرا يسمعه سبعينيٌّ ملَّ من مؤانسته أعزُّ أقربائه لكثرة ما يطلب تكرار الجمل والكلمات..
التفت إليه الشاب الجالس بجانبه، بمُلقيًا التحية والسلام، ثم شرعه في الأسئلة المعتادة في هكذا أماكن: “أين درست..ما تخصصك.. هل لديك عمل آخر..؟ إلخ”، هز الشاب كتفيه، ورفع حاجبيه من العجب – وهو يقلب ملف صاحبنا المكتظ بالأوراق- قائلًا: “معك كل هذه الشهادات وتقدّم في فرصة متواضعة كهذه؟!” جذب مفله ورد ببرود : “ربما تنقصني ورقة” ثم أدار رأسه وأغمض عينيه علّه يظفر بغفوة في وسط هذا الضجيج.. يا للعجب من كان يظن أنه توجد أماكن أكثر ضجيجا من رياض الأطفال!
لم تمضِ بضعُ دقائقَ حتى انتبه على صراخ وعويل امرأة تنادي :” لقد أخذه، إنه لص الحقوا به! ” أهي أم فقدت ابنها؟! حاول جماعة من الشبّان الإمساك باللص ولكن دون جدوى..
يبدو أن أحدهم قد امتهن السرقة بحيلة ذكية، ما إن يسمع بمقابلة عمل في مكانٍ حتى يحضر بزي فخم وكأنه أحد أغضاء اللجنة حاملا في يده حقيبة خالية عدا الأوراق التي وجدها مبعثرة في درج غرفته القديم، ثم في مشهد تمثيلي متقن يصطدم بإحدى الفتيات اللاتي لا يشغلهنَّ عن العبث بالهاتف النقال حتى قطع الطريق السريع..
لم تنتبه المسكينة لهاتفها النقال ومحفظتها إلا بعد أن ولّى الشاب – الذي أعاد تمثيلَ مشهد مدير الشركة الذي يصطدم بالموظفة الجديدة؛ فتتناثر الأوراق وتتلاقى الأعين ثم.. – هاربًا، تقنع في نهاية الأمر بعدم جدوى دعواها بالويل والثبور فتهدأ.. كان الجميع منهمكا في إعادة قراءة الأسئلة الشائعة..
أخيرا أتى دور صاحبنا، توجه إلى غرفة المعاينات، ووضع ملفه على الطاولة وآخذًا مكانه بمحاذاة اللجنة المكونة من ثلاثة أعضاء من كبار المسؤولين في المؤسسة، أخذت الأسئلة تتهاطل عليه، واحدا تلو الآخر.. في كل فن؛ داخل مجال العمل وخارجه، من حساب وعلوم ولغة عربية وأجنبية التي تكون بمثابة تعجيز للمتقدم .. لم يجد صعوبة في الرد عليها هذه خامس مرة يدخل مقابلة توظيف.. لقد حفظ المئات منها عن ظهر قلب في كل مرة يحضر نفسه فيها للمقابلة.. لم يجد أعضاء اللجنة مهربًا من إظهار إعجابهم بإجاباته المسددة، ثم سأله المتوسط فيهم سؤالا كان الفصل في نتيجة القبول أو الرفض: “هل معك توصية من أحد وجهاء البلاد أو قريب من مسؤولي المؤسسة؟”
لملم ملف شهاداته وخرج صامتا لا ينبس ببنت شفة، يبدو أنه ينقصه شيء ما، الورقة الرابحة!