لماذا يصرُّ الشّعراءُ الحداثيّون على مهاجمة الشّعر العمودي ؟!
منذ منتصف القرن العشرين ، و مع صدور ديوان ( لن ) للشّاعر اللبناني أنسي الحاج عام ١٩٦٠،
بل ربّما قبلَ ذلك بقليل ,
أي مع صدور كتاب (poème en prose
المترجم بعنوان (قصيدة النثر )
للناقدة الفرنسية سوزان برنار ،
و الذي اعتبر قصيدة النثر أداةَ تمرّدٍ ضدّ نظامٍ كاملٍ من الأعراف الفنّية و الاجتماعية ،
و حتى اليوم ، و الصّراع ما يزال مستمرّاً بين أنصار الخليل بن أحمد الفراهيدي و أعدائه ،
فمع ظهور ما يُسمّى بقصيدة النثر ، و التماع بعض أسمائها ك ( أدونيس ) و ( يوسف الخال ) الذي تبنى قصيدة النثر في مجلّته التي كانت تصدر آنذاك في لبنان ،
و غيرهم
بدأ الكثير من جيل الشّعراء الشّباب حتّى أولئك الذين كانت بداياتُهم عموديّةً صرفة ،بالانزياح نحو الكتابة الحرّة بمختلف مسمّياتِها ،
بل تعدّاه إلى الانسلاخ من كلّ ما يُسمّى ((قيوداً )) على حدّ تعبيرهم ،
و اللجوء إلى المساحات الشّاسعة التي لا يحدّها وزنٌ و لا قافية،
بل و لا حتّى أي التزام أدبي تجاه السجلّ العظيم من القصائد العموديّة التي بنتْ موروثَنا الفكريّ و العلميّ و الأخلاقي ،،
متجاهلين أنّ الثّورةَ الشكليّة التي حملوا راياتِها قد انشغلت بشكلٍ خاص بالبُعد التّقني و المظهري من المشكلة الشعريّة ،،
و لم تتطرّق كما ينبغي إلى الأبعاد الجوهرية لها ،
و بالرّجوع قليلاً إلى ( نازك الملائكة ) و ( بدر شاكر السيّاب )
و غيرهم ممّن ابتكروا شعر التّفعيلة ،
نجدُ أنفسَنا كشعراء و كقرّاء نقفُ باحترامٍ و إجلال لهذا الابتكار الأنيق ،
فهو لم يتخلَّ عن الموسيقا الشعريّة ،التي هي من ركائز القصيدة العربية ، بل كثّفَها تكثيفاً سلِساً و أنيقاً ، و متناسباً مع مفاهيم العصرنة و القصيدة المغنّاة ،
و أيضاً بالنّسبة للقافية ،
فهو لم يتنازلْ عنها بل نوّعَ فيها و عدّد ،لذا فالشّعراء بشتّى اتجاهاتِهم عموديّةً كانت أم نثريّة ، لا يختلفون كثيراً حول جمالِ التفعيلة و موضوعيّتها ،،
و لكنّ الاختلاف الحقيقيّ قائمٌ بين شعراء النّثر و شعراء العمود ،
فبينما يرى أنصار النّثر أنّ القصيدة الحرّة بشكلِها النّثريّ هي نتاج تطوّر طبيعي و تفاعلات حداثويّة طرأت على الشّعر العربي بسبب الإطّلاع و الاختلاط بالآداب العالميّة ،
و يرَوْنَ أنّ هذه المتغيّرات ضرورةٌ ماسّة لكي لا ينتابَ هذا الجنسَ الأدبيّ السّكونُ و الانحدار ،
فهي حالةٌ مكمّلة للحركة الشّعريّة الحديثة و تفاعلاتها “على حدّ تعبيرهم ”
و هم لا يرونَها ابتعاداً عن القصيدة الموروثة بقدرِ ما يرونَها لجوءاً إلى الرّمزِ العميق و السّهل المُمتنِع ،،
بينما يصرّ شعراءُ العمود على أنّ الشّكلَ التّقليديّ للقصيدة العموديّة هو أساس الشّعر العربي ،و من لا يكتب القصيدة العموديّة في نظرهم لا يُعتبَر شاعراً حقيقيّاً ،
بل و منهم من ذهب أبعد من ذلك ، إلى رفضِ تسمية نصّ النثر بالقصيدة النثرية ،، و اعتبارِها مجرّد ترجمات لنصوص غربيّة لا تمتّ للشّعر العربي بصِلة ،،
أمّا إذا أردْنا أن ننظرَ للأمرِ من زاويةٍ حيادية ، سنجدُ أنّ الجمالَ الحقيقيّ يكمنُ في الإبداع ،
و الإحساس الذي يستطيعُ المبدعُ أن يوصلَهُ لقارئه ،،
و الفكرة التي يمكن للمتلقّي أن يسبَحَ في تأمّلها ،،فمهما اختلفتِ الأشكال يبقى الجمالُ جمالَ الطّرح و المضمون ،،
و تبقى الأولويّةُ للرّسالة التي يحملُها الأدبُ هذا إذا اعتبرنا أنّ الأدبَ رسالة ،،
فلا يمكنُ لأحدٍ أن ينكرَ التجديد و العبقريّة في الكثير من القصائد العمودية المعاصرة ،
و الكثير من الأسماء اللّامعة لشعراء معاصرين لا يكتبون إلّا شعراً عموديّاً ،،
و في نفس الوقت لا ننكرُ الومضات الإبداعية التي نجدُها لدى كتّاب النصّ الحرّ ، أو قصيدة النثر ،
أو حتّى لدى كتّاب ( الهايكو العربي )
الذي وصل إلينا عن طريق ترجمة النّصوص اليابانية ، و الذي يُعتَبَر مؤسّسُه هو الشّاعر الفلسطيني عزّ الدين المناصرة عام ١٩٦٤، في قصيدتيه هايكو تانكا ،، و توقيعات ،،
و هذا النّوع من الكتابة يعتمدُ على الومضة الشّعريّة الخاطفة ،، و الإيحاء المركّز ،،
و لكن من باب الإنصاف ، نقول للشّعراء الحداثيّين الذين يظهرون في كلّ المناسبات ليهاجموا العمودَ و فرسانَه ، و يتّهموه بما ليسَ فيه ،من أنّ الدّهرَ عفا عليه ،
أو أنّه لا يستطيع مواكبةَ المواضيع و المصطلحات المعاصرة ،أو أنّه محدودُ الصّور و الأفكار و مقيّدٌ بقيود الوزن و القافية ،
نقولُ لهم
من المُشينِ أن تسعى كلُّ شعوبِ العالم للافتخارِ بتُراثِها و إرثِها الفكريّ و الحضاريّ و إظهاره للقاصي و الدّاني ،،
بينما نسعى نحنُ و بمحاولاتٍ شرِسة إلى تقليدِ الأشكالِ الشعريّة المستوردة ،
و رَدمِ الشّكلِ الأصيل للقصيدة العربيّة ،،
كما نقول أخيراً
إنّ الشّاعرَ المُبدع لا يقيّدُهُ الوزن ، و لا تحدّه القافية ،
بل يطوّعهُما معاً للوصولِ بنا إلى قصيدةٍ تُطرِبُ آذانَنا بموسيقاها
و تُطرِبُ أرواحَنا بإحساسِها ،
و تُطرِبُ عقولَنا و مخيّلاتِنا بأفكارِها و صوَرِها ،،
بقلم د.إيمان عبد الكريم الرزوق