الأديبة /إيمان أحمد التميمي

النسخة الثانية المقال الأدبي

الأديبة /إيمان أحمد التميمي

المركز الثاني في فرع المقال الأدبي من دولة الأردن

مثقال أبجدية

 

ليس لأنّ الطّقس سيّء هنا يهاجرون، أو لأنّ الواقع أجمل هناك. بلا طائرات أو قطارات أو مراكب يهاجرون، في صدى أغنيات حوريّات البحر، وفي فضّةِ الحلم, وحين يجمع الغيم قمحاً يهاجرون. أجل، للشعراء دائماً هجرتهم الخاصّة. هجرة خارج أسوار اللّغة والتّكرار. خارج أسوار المألوف والحسّيّ، هجرة إلى المجهول حيناً، وإلى أرض القيامة والجنون حيناً آخر. هجرة تتجاوز عتبة الولادة والقلادة والآهات والذّكريات، في رغبة عارمة للوصول إلى أعلى سقف من سقوف الحريّة، وإلى ذلك الدّفء بعيداً عن شتاء هذا العالم القارس. هجرة ميتافيزيقيّة طوعيّة، لالتقاط ذبذبات أكوان أخرى. لذا لا عجب إن كانت الهجرة القسريّة، أو اللّجوء القسريّ، من أكبر وأقسى مآزق وفجائع الشّعراء.

 

أكاد أسمع شاعرة تصف اللّجوء فتقول:

إنّه البعد، السّيف، الحبل. والرّابح الّذي يضع قواعد اللّعبة. ويحدّد هويّة الخاسر. إنّه الحوض الزجاجيّ الضيّق. الّذي يجعل أسماكنا تفكّر عميقاً بجدوى إرادتها الحرّة. بجدوى ما تحمله من كبرياء الموج. إنّه السّجن الدائريّ للمخيّلة، تلك المخيّلة الّتي تُؤاخينا بكائنات سماويّة يافعة، كائنات تنبض بالزّرقة والحياة، تكبر وتمشي ساخرة من جثث العدم، وساخرة من أسماء وعناوين السّلاسل والوحول.

اللّجوء عدوّ القصيدة، يجعلها مشهداً ثانويّاً ساذجاً، أمام مشهد الخيمة المجوّفة لعواء الرّيح. مشهداً تراجيديّاً ناقصاً، أمام أنين الوطن الّذي تقشّر جلد أزهاره، زخّات لا تنقطع من المطر الحمضيّ. الوطن المطرود بعيداً عن رحم عشتار، الحامل عقمه قرباناً لحتميّة الزّبد.

 

وأكاد أسمع شاعرة أخرى تقول:

إنّه الهلوسة الّتي تجعلنا نمارس تدمير الذّات كهواية، وتجعلنا ننصت مبتهجين، لنعيق كلّ بومة تلعن وجودنا الفائض عن الحدّ. إنّه المرآب الضّخم لمركبات طمأنينتنا العاطلة عن العمل. واللّعنة الّتي تتفنّن بصنع القنابل المسيلة للدّموع، هذه  الّتي لا تجعلنا نذرف الدموع فقط على ما حدث، بل على كلّ الأشياء الّتي لم تحدث بعد. إنّه العابث الانطوائيّ، والبئر الّذي لا يترك  سلّماً، لكلّ أولئك الّذين لا يرغبون في البقاء. إنّه درس في اليوغا، يعلّمنا الطّريقة المثلى للتنفّس عبر الألم. التنفّس دون لون أو طعم أو رائحة.

 

وشاعرة أيضاً، أسمعها تقول:

إنّه الفخّ الذّكي، الذّكي جدّاً، الّذي يوقِعُ بأطهر وأقوى الأرواح.

فخّ يجعلنا مُجبَرين على خوض معارك داخليّة كثيرة، لا تقلّ شراسة عن حروب الخارج. فترانا نقاتل من أجل أن يكون الحبّ لا الخوف هو الّذي يوحّدنا. ونقاتل كي نتخلّص من كلّ ذلك الارتباك والقلق والهلع، الّذي بدأ يصيبنا في كلّ المواعيد الأولى مع الغرباء. ونقاتل ضدّ فكرة أنّ الانتماء يكون فقط، للّذي يُيَمِّمُ وجهه نحو قِبلة مشابهة، وإن كانت شيطاناً .

ونقاتل كي لا نرسم الآخرين بطول هائل، بينما نرسمُ أنفسنا أقزاماً أسفل الصّفحات.

نقاتل ضدّ فكرة أنّ الوطن ليس حكاية من حكايات الجدّة الخرافيّة.

ونقاتلُ كي لا تتحوّل ذواتنا إلى ممرّ رماديّ غامض، جحيميّ يربط بين ذاكرتين، كلّ واحدة منهما تحاول أن تمحوَ الأخرى.

ونقاتل أخيراً من أجل أن لا تغدو إنسانيّتنا أوهن من خيوط العنكبوت.

 

أحبتي:

يا لمأساة أن تكون المرأة شاعرة، ولاجئة برتبة مشرّدة.

هذا يعني أنّ ثمّة لعنة شيطانيّة، تجعل النّمل يتخيّل حزنها طبق حلوى. وتمسك بساقيها كلّما حاولت الخروج من بيت ذاكرة الحرب، لعنة شيطانيّة تدفع بجميع كائنات وجودها، كالدّود إلى مائدة الغربان الكبيرة، وتجرّ رؤوس أشجارها عنوة إلى أقاصي الصّحراء.

لعنة تجعلها لا ترى اليد الّتي تلقي لها طوق النّجاة، تجعلها ترى فقط اليد الّتي تحمل السّكين، السّكين الّتي تُقطِّع إلى نصفين جسد تلك العصا، العصا الّتي يمكن أن تهشّ بها عناكب السّؤال، السّؤال الّذي يتلو السّؤال. كيف. لماذا. إلى أين.

شاعرة ولاجئة، يا للهول، كيف لمن أدمنت الرّفرفات الطّليقة في الأفق الواسع، أن تعاني فجأة من فرط ضيق الأرض عليها. فتتكوّر على نفسها مثل جنين، فوق غبار الحصيرة البلاستيكيّة.

كيف لمن كانت تتوضّأ باليقين ومسك ختام الضّوء، أن تغدو هويّتها ممحوّة، وشبحيّة كإشارة يكسوها صدأ كثيف.

كرقم ساذج في ملفّات المنظّمات الحقوقيّة والإنسانيّة، سوفَ تعلوه  الطّحالب وذاكرة النّسيان قريباً.

كيف لمن كانت تطمس بحروفها كلّ أثر للبشاعة والقبح، أن تنظر في عينيّ طفل واسعتين، فلا تستعيد شيئاً من ذاكرة الجمال.أن يتملّح حبرها الّذي كان نبعاً عذباً،  كإسفنجة تناولت وامتصّت كلّ  دموع هذا العالم! العالم الّذي أفقدها رويداً رويداً، بساط علاء الدّين. وأفقدها كلّ مظلّة صالحة للقفز، حتّى أصبحت فريسة كل هاوية. أوه، يا إلهي كيف لمن كان احتجاجها عالياً، وصرخاتها مدويّة في وجه كلّ شيء، الظّلم/ الخوف/الضّعف/ الزّنازين/ الأصفاد/ الكذب/التّيه/. أن يغدو صوتها خافتاً كغرغرة القواقع، وأن تكون عاجزة عن كسر حتميّة الغراب بالهديل.

كيف لصاحبة الدّهشة والفرح الهادر، أن تشكّ حتّى بصدق ابتساماتها، في كلّ الصّور الفوتوغرافيّة القديمة.

شاعرة ولاجئة!

كيف لمن كانت تؤمن بحقيقة أنّ ملامسة الموت، تمنح معنى مضاعفاً للحياة. وأن قطع بعض أميال في مقبرة، لا يجعل من المرء ميّتاً، أن ترى بكلّ هذا، مجرّد خرافة من خرافات الأوّلين.

يالخذلانها الدّائريّ.

هي الّتي في كلّ يوم، تصنع لأحبّتها الّذين فقدتهم في الحرب، تماثيل صغيرة. ثمّ تجلس على عتبة البكاء، تتوسّل السّماء، أن تبثّ في صلصالها الرّوح. تعلم أنّ الموتى لا يعودون؛ لكنّها وسيلتها الوحيدة للاحتجاج على الموت.

وأخيراً:

إذا كان اللّجوء يُنقِصُ من روح أحدهم مثقال ذرّة. فإنّه يُنقِصُ من روح شاعر مثقال أبجديّة.مثقال أبجدية