مع نهاية الساعات الأخيرة ليوم الخميس، وبينما كنت عائدا للبيت، بعد يوم عمل حافل بالتعب، استقبلني صراخ والدتي الذي عم الحي بأكمله. دخلت مهرولًا لأعرف ما يحدث، فوجدت أمي تصرخ في وجه أخي الصغير، وهي تحمل بين يديها ورقة تتصدرها كلمة ” راسب “، تمت كتابتها باللون الأحمر القاتم.
فهمت للحظة أنها كانت توبخه نتيجة تكاسله في الدراسة، فقد انخفض مستواه انخفاضا ملحوظا. بعد توقف تلك الجلبة، جلست على الأريكة أحتسي الشاي ببطء وتأنٍّ، إلى أن قادني الشرود لأسترجع ذكريات مراهقتي.
تسللت في أحد الأيام، لغرفتي الصغيرة، بعد عودتي من المدرسة وأنا أمسك بيديَّ الصغيرتين المرتعشتين رسالة تفوح بعطر نسائي جذاب للغاية.
لقد كانت رسالة حب، أعطتني إياها زميلتي في الصف، حيث كنت أبادلها نفس ذلك الشعور، فقط باختلاف وحيد، وهو أنه كان ممزوجا برهبة غير عادية من احتمال اكتشاف والدي الأمر، وخاصة أمي. إذ أنني كنت أعاني من ضعف في التحصيل الدراسي.
كانت والدتي أما حنونة عطوفة، لكنها لا تتساهل البتة في مثل هذه الأمور، وإن عثرت على تلك الرسالة، فحتما ستعاقبني أيما عقاب. كانت أمي صارمة جدًا في تربيتنا وتعليمنا، ولا تقبل زلات من شأنها أن تتسبب في استدعائها للمدرسة، أو يُرسلون إليها رسالة إنذار وتوبيخ أو ما شابه. لكن طيش الصِّبَا، تغلب بضع مرات على شعور الخوف من أمي.
بعد دخولي لغرفتي، تنهدت عدة مرات ثم أوصدت الباب بإحكام. بعد ذلك وضعت تلك الرسالة الرومانسية في مكان سري آمن، بعد أن استنشقت عطرها الفواح للحظات أخيرة. مرت الأيام بلياليها، وقد كنت أنتهز دقائق قبيل وقت العشاء أو الإفطار، لأستنشق عطر الرسالة وأقرأها مجددا، إلى أن جاء ذلك اليوم الذي تجمد فيه الدم في عروقي، وانتصب شعر رأسي كجحافل الجنود المتأهبين للحرب. كان كل شيء على ما يرام، حتى نادتني أمي تصرخ بشدة، وتلح علي بالقدوم على الفور. كان نداؤها ينبعث من غرفتي، حيث تملكني الشك بأنها عثرت على تلك الرسالة لا محاله.
توجهت نحو الغرفة بخطوات متثاقلة. طرقت باب الغرفة بسلاسة وتهذيب مصطنع ثم دخلت، بعدما أخذت الإذن منها أولا. بمجرد وقوع قدمي في الغرفة، حتى زارتني صدمة ما بعدها صدمة. فوجئت بأمي واقفة أمامي مباشرة، مرتدية ثياب تعزيل البيت خاصتها، وتحمل في يدها ورقة تعصرها بكل قوى يدها وهي ترمقني بنظرات الخيبة.
لم يكن هناك احتمال آخر أتمسك به. يبدو أن أمي عثرت على تلك الرسالة. استنتجت ذلك من ثياب التنظيف الخاصة بها التي كانت ترتديها، حيث كانت ملطخة بالغبار. لم يخطر ببالي احتمال آخر، لأنه وإن ارتدت أمي تلك الثياب، فلن تترك مكانًا إلا وتبحت فيه حتى تنظفه كله.
قلت وأنا أرتعش: ” آسف أمي، لن أعيد الكرة أبدا “.
قاطعتني قائلة وهي تلوح بين الحين والآخر بتلك الورقة:
” ما الذي قصرت فيه معك حتى تقوم بهذا. أجاهد مع والدك لتوفير كل الأمور الضرورية من ملابس وأكل، وحتى أننا اقتنينا لك الحاسوب الذي طالما حلمت به. وما الذي فعلته، تكافئنا بهذه! أرى أنك تذهب للمدرسة للتسكع والمرح؟ “.
للحظة لم أعرف ما أقوله. كل ما فعلته أنني خفضت رأسي من شدة الخجل والخوف. تشنجت أطرافي، وبدأ العرق يتصبب على جبيني، وتسارعت دقات قلبي وظننت أنها نهايتي حتمًا. بعد ذلك، لم أَعِ على نفسي حتى سقطت على الأرض مغشيًّا عليَّ.
بعد وقت طويل، فتحت عيني الصغيرتين الواهنتين، لأتفاجأ بأمي تشد على يدي، وهي تحمل كأس ماء بيدها، وقد علت ملامحها علامات الحزن الشديد. بكت أمي بشدة، وقبل أن أتفوه بكلمة أصابتني ريبة لوهلة لِما لمحته. لفت انتباهي طرف من الورقة التي كانت أمي تمسك بها. لقد كانت ورقة امتحان الرياضيات خاصتي، مكتوب عليها تقدير: راسب.
كتمت الأمر في أعماق قلبي، وعرفت أنها لم تجد الرسالة التي ستصدمها أكثر من ذلك. لهذا نهضت من مكاني مغادرًا، وأنا أتمتم بكلمات السخط والغضب: ” عليك اللعنة، يا رسالة الحب ….. “، تاركا والدتي تحت دهشة عارمة.
في صباح اليوم التالي، هرعت نحو غرفتي لأمزق تلك الرسالة، ولقد قطعت عهدا بعدم خيانة ثقة والدتي للأبد.
النهاية