“حِينَ رميتَ بي لمْ أتَحَطّم، بلْ تعلّمتُ الطّيران”
غادة السمّان
لَا يَعْلمُ حَمُّود سَبَبًا وجيهًا لمَوْتِ عُصفورُهِ، ولا يتذكّرُ شَيْئًا في آخرِ لقاءٍ بَيْنَهُما.
فكّرَ لدقائقَ عن سَبَبِ موتِهِ الفُجائِيّ، لكن عَبَثًا حاوَل.
لذلكَ، وبُغيَةَ إكْرامِهِ عَلَى صُحْبَتِه القَصيرة مَعَهُ، وَحِفْظًا لجُثّتهِ الصّغيرة من قِطَطِ الحَيّ، قَرَّرَ دَفنَهُ في مقبرة العائلة.
***
أخْرَجَ منديلهُ العَطِر، وَكَفّنَ بهِ العُصفور، ثُمّ خَرَجَ نحوَ أرْض المقبرة ساهِمًا. وَرَغْمَ مَعَزّتهِ في قلبه وَتَعلّقهِ الشّديد بطائرهِ، ظلّتْ عينَا حمُّود جافّةً كَبئرٍ مُعطّلة.
تَساءَلَ، ما الذي يمنعُ عينيهِ من البُكاء على فقيدهِ؟ ألمْ يَرْحَمهُ صغيرًا وَيَأوِيهِ؟ ألمْ يَسْرقْ من أجلهِ ويُطْعِمْهُ التّوت والتفّاحَ والكَرَزَ مُتَحَمِّلاً صَفَعات والدهِ التي نالَهُ منها الكثير؟ ألَمْ يُغلّقْ عليهِ قَفَصَهُ أشهُرًا طويلة، خَوْفًا عليهِ من مَقاليع الأطفال التي كانت تُمْطرُهُ بالحجارة كُلّما شَرَعَ بالتغريد؟
لمْ يعلمْ حمُّود سَبَبَ هذا التَصحُّرِ الشُّعوريّ!
من أجل ذلك، مَالَ نحوَ شارعٍ جانبيّ، وَدَخَلَ أحَدَ المحالّ التجاريّة واشْتَرَى جُرْعَةَ بُكاءٍ صغيرة.
كَرَعَ نِصْفَها في جَوْفِهِ وهو يَضُمُّ عُصفُورَهُ النّافقَ بَيْنَ أصابعهِ، ثُمّ تَحامَلَ على نَفْسهِ وهو يَعْتَصِرُ أنابيبَ مُقْلتَيهِ، حَتّى نزَلَتْ دمعةٌ، تَنَهّدَ إثرَها حمُّود كأنّمَا يُكابِدُ لإرضَاءِ ذِمّتهِ، ثُمّ أكْمَلَ خُطاهُ إلى أنْ وَصَلَ بوّابة المقبرة.
وتجَنُّبًا للتّأخير، سارَعَ الصّغيرُ بخُطواتٍ عَجُولَةٍ، نَحْوَ قَبْرِهِ، وَسَطَ أرْضٍ بيضاءَ عَفْراء، لا تَحْمِلُ شاهِدَةً لأَحَد.
***
لكن، وعلى حِينِ غِرّة، ظهَرَت والدَتُهُ بقلبٍ واجِفٍ، وهي تُعاتِبُ بيَأسٍ زَوْجَها:
رَجَفَ قلبُ والدهِ وهو يَمْسَحُ دمعَتَهُ المالحة:
انْطَرَحَت الأمّ جَنْبَ قَبرِ وَلدِها، وهي تَنْشُجُ بصوتٍ عَبَرَ أوْصَالَها قبل لسانِها:
هُنالكَ، دَاخِلَ قَبْرِه، انْكَمَشَ حمُّود، وابْيَضّت عيناهُ بحَسْرَةٍ حارِقَةٍ، وهو يَتَهجّى بَعْضًا مِن صَلوَاتِهِ تجاهَ عُصفُورِهِ في ابتهالٍ وَضَراعَةٍ قَبلْ أنْ يَفتَحَ منديلهُ.
ثُمّ، هَمَّ بالوُقوفِ لإكمالِ مراسِم الدّفن.
لكن، وعلى نَحْوٍ لا إرَادِيّ، اهْتَزّ رأسُ حمُّود لِلَحَظاتٍ، مَع بُروزِ وَميضٍ عَجيبٍ في عَيْنَيهِ رافقهُ غَرْغَرَةٌ خفيفةٌ مِنْ فَمِهِ، اخْتَلَجَ صَدْرُهُ إثرَها، فَصَفَّقَ بيَدَيْهِ بخفّةٍ مُهيبةٍ، قبلَ أنْ يَنْهَضَ بجسدهِ، وَيَطيرَ في فضاء المَقبرَة، صُعودًا نحوَ السّماء، نحوَ الأعالي، تارِكًا زَوْجَيْن، مَغْمُومَيْن، نَتَفَ أحَدُهُما جَنَاحَيْ ولدهِ، دُونَ أنْ يَعْلَمَ، أنّهُ مُسْتَعِدٌّ للطّيران.