الشِّعري والنَّثري: جدليّة العلاقة
لا جدال في كون ثنائية الشعر والنثر كانت قائمة في مختلف الآداب الإنسانية، ويكفي أن نستدل على ذلك بمسار الأدب العربي وتطوره عبر العصور والأزمنة، حتى وَصَلَ إلى ما وَصَلَ إليه الآن، فقد بدأ شعراً إذ يَتَعَيَّنُ وصفه بأنه أساس الثقافة العربية، ثم تطوّر كما تتطور الثقافات الإنسانية إلى معانقة النثر في كافة أشكاله وتجلياته، وعليه فإن هذه التراتبية من حيث الظهور والتأريخ والخصوصية والتجنيس لا تعني ترسيخ وهم الأسبقية والتقادم وتفضيل هذا عن ذاك، وإنما يكمن القصد في الخيارات المُمكنة التي تُتَاح أمام المبدع للانشغال بأسئلة الكتابة، فتطور نظريات الأدب وانتقاله من الشفهية إلى الكتابة (التدوين) إلى الرقمنة والتّرابط النّصي، جَعَلَ الأجناس الأدبية غير ثابتة، فهي دائمة التموّج والتحول والتبدل، فقد أضحت في زمننا المعاصر عُرْضَةً للتعالق والامتزاج والتفاعل، وفي هذا الصدد، يقول الناقد المغربي رشيد يحياوي :”إن ما نستنتجه من دراسة حدود العلاقة بين النثري والشعري في التلقي العربي، أنهما طرفان قائمان وإن صعب الوقوف على فيصل يرسم حدودا طبيعية وشرعية لكل منهما، وأن التمييز بينهما انطلاقا من الخصائص البارزة قد لا يكون مجديا دائما ما دامت تتوافر فيهما معا وإن بدرجات متفاوتة”(1)، فهذه العلاقة المُتَشَعِّبَة بين الشعري والنثري تُحاول النبش في مُؤرقات الوجود والمخبوء بين ثنايا الكون الواعد بالغامض والمجهول، أي “الحفر في بنية ما هو مسكوت عنه، وضائع على هامش”(2) الحياة والإنسان والذات، فالإبداع هو عوالم متخيّلة، وتعبير حيّ عن مآسي الإنسانية، ولا بد لهذا الإبداع أن يَتَطَلَّعَ نحو الأفق الإنساني الرحب سواء أكان شعراً أو نثراً، وعلى ضوء كل هذا، فإن تَجَدُّد الأسئلة حول الشعري والنثري هو من باب تجديد كينونة النص الشعري وكيانه بعيداً عن منطق التنابذ والمفارقة والتناقض، فهو بتعبير آخر “رغبة الذات في إيجاد المعنى، وعزمها على إنشاء القيمة”(3)، أي قيمة الإبداع السامي في تَحقُّقَاته النصيّة وبنيات خطابه، ولعلّ انفتاح الشعر على مسارب النثر سيزيد من عمق الخطاب الشعري واحتمالاته التّأويلية، وهو ما أضحى اليوم، أفقاً رحباً للكتابة ومجالاً للتفكير في مآلات النص ووجوده.
إن بناء المعنى في الشعرية العربية المعاصرة يَتَّجِهُ نحو العوالم المُدهشَة والمُعَقَّدَة في الآن نفسه، عوالم تَنْفَتِحُ على أسئلة الشعر، و”تنمو في اتجاه الأعماق، في سريرة الإنسان ودخيلاته، وتنمو أفقياً في تحولات العالم”(4)، لِنَقُلْ، إنها منافذ جديدة ترى إلى الشعر ذلك الملاذ الواعد بالمفارقة والإدهاش، لذلك، فإن بناء المعنى الشعري يَسْتَمِدُّ متخيّله من التّأمل في تحولات العالم أحياناً، وبالصمت المحيط بهذا العالم أحياناً أخرى، وفي الصمت التحام مع صوفيّة الروح والجسد معاً، حيث تخرج القصيدة من دواخل الشاعر شفافةً شفيفةً، مشمولةً بحيرة السؤال وهواجس التخييل، فالشعر “جوهره تيه. بقدر ما هو مشروع لا مكتمل لا يتحدد بهدف غائي، تتوقف عنده حركة الشعرية، ومن ثم، فهو ضد الحقيقة التي تظهر كموجود يمارس إكراهاته على الكائن الجوهراني الشعري. إن اللاحقيقة في الشعر هي الوجود الأصلاني المنفتح، أو التجلي الأكثر تميزا في تعدديته، فهو دليل الحيوية الناطقة التي تعري إمكانات العالم التخييلية، التي تحدس بالظن، بقدرات الكائن الشعري التنبؤية. والشعر في إحدى إمكاناته واختياراته الكبرى مساءلة حيوية للوجود”(5)، وهو أيضاً مسؤولية وانفلات من اللامرئي وترحُّل دائمٌ بين مسارب اللغة والكلام والتخييل. ومن هذا المنطلق، فإن الكتابة سواء الشعرية أو النثرية أو من خلال التقاطع والتقاطب بينهما، هي كتابة تَسْمَحُ بتمثيل عمق الاشتباك ولا تفصل بين طرفي هذه الثنائية أو رسم تخوم نهائية غير قابلة للفصل، فـ” هوية الشعر والنثر لا تتلاشى في الآخر، بل إن السمات في انصهارها المذكور تجعل الشعري نثرا، أو تجعل النثري شعريا، بكيميائها الخاصة”(6)، غير أن هناك بعض النقاد من يرى عكس ذلك، فجون كوهين على سبيل المثال يعتبر أن “للشعر نقيضان: الأول هو النثر الذي ينقاد لقانون المطابقة. والثاني هو غير المعقول الذي يتمرد على الاثنين معا”(7)، ويقصد جون كوهين بالتطابق أو المطابقة تمثلات الخارج ومحاكاة الواقع محاكاة تامة ونقله إلى النثر، في حين يبقى القول الشعري ثائراً عن هذه المطابقة، قريبا من الانزياح والايحائية، فـ”وضع الشعر في مواجهة مناقضة للنثر، ليس موقفا حكيما على إطلاقه، فهو يأخذ كلا منهما باعتباره مطلقا ثابتا أو معطى نهائيا. إن الشعر، مثلا، حاضنة لمجموعة من المكونات اللغوية والدلالية، والإيقاعية والمعرفية، لا تتجسد إلا في بنية مخصوصة، حسية وفردية وقابلة للتأمل والفحص، لذلك كان موقف كوهين هدفا لكثير من الاعتراضات الجادة، فالشعر، في حقيقته، ليس نقيضا للنثر بل نقيضا للاشعر”(8)، وهكذا، فإن حضور النثري في الشعري لا يُقَوِّضُ كيان الشعر وكينونته، ولا يُعَكِّرُ مجراه الصافي الواعد بالمجازات والتشابيه، بل يتماهى فيه بشكل ٍحميمٍ وشفيف، ويغدوان معاً مجرى واحد تَتَجَسَّدُ فيه كل عوالم الإدهاش والشغف والمفارقة، ذلك أن “كل كتابة تَتَضَمَّنُ حداً أدنى من الجهد والإعداد”(9)، وتختزن أيضأ كل أشكال الشغف والمكابدة، ووجَبَتِ الإشارة ها هنا، أن عدداً من الشعراء تحولوا إلى الكتابة تحت سقف الرواية وتفوَّقوا، بل منهم من نال جوائز عربية رفيعة في مجال السرد الروائي، فقد حَمَلَوا إلى جنس الرواية دهشة الشعر وعوالمه من اقتصاد في اللغة وإيحاءٍ وترميزٍ وقدرة على التخييل وصياغة الجملة القصيرة ذات النفس الشذريّ الهايكويّ وبناء المعنى، وغيرها، لذلك، فالعبرة “بقيمة ما نكتب، وأن صفة شاعر أو روائي ليس قدرا يحصر المبدع ضمن خانة أبدية، تتطلب منه الحصول على ترخيص مسبق للكتابة تحت لواء جنس أدبي غير الجنس الذي اشتهر بالكتابة تحت سقفه”(10)، وعليه، فإن الكتابة الشعرية، وهي تؤسس لفرادة صوتها وتميّزها عن باقي الأجناس الإبداعية، تبدو في حاجة إلى إضافات تجديدية ورؤى فكرية جديدة حتى تتجاوز ما تعيشه الذات الإنسانية من تشظ وقلق وتفكك وتقويض، خصوصا أن نعيش في مجتمع حداثي حاملا قيم العقلانية والتنوير والثورة على كل التصورات المعرفية الضيقة، فـ”الحضارة الإنسانية تعيش ترديا داخليا، من خلال الشعور، بالخوف، بالعجز، بالفقدان، بالغياب، بانتصار العدم”(11)، وهو الأمر الذي يؤكد على أن تنافذ الأجناس الأدبية وتقاطب معاييرها الجمالية، أضحى في وقتنا الراهن مطلباً حضارياً سيسهم في تشكيل وحدة إبداعية متواشجة متماهية مع تحولات العصر وثقافة العولمة. إن هذه الجدلية بين الشعري والنثري، تثير الكثير من الأسئلة الإبستيمية، وفي الآن نفسه تسمح باجتراح مسالك معقدة، مرتبطة أساساً بخصوصيّة كل جنس أدبي، لكنها، تظلُّ مشرعة على الحلم والإدهاش والمفارقة، بيد أن التجارب الشعرية المعاصرة تربطها آصرة التقاطع والتنافذ مع كل تشكيلات النثر، ويُمكن ملامسة ذلك من خلال عددٍ من الأعمال الشعرية التي أخذت الانفتاح الأجناسي مسارا للكتابة وأفقاً للتفكير في كون الإبداع لا ينحصر في الشعر وحده أو النثر، وإنما في هذه الكتابة الكليّة القادرة على تجاوز أعطاب العالم والإنسان والمجتمع مُشَكِّلَةً هوية واحدة مشتركة أساسها المكابدة والإدهاش فنياً وفلسفياً وجمالياً.
هكذا، فإن التواشج بين الشعري والنثري، أضحى شرطاً جمالياً في الكتابة الشعرية المعاصرة، ومن خلال هذه الصلة المتقاطعة تُؤسّسُ القصيدة هويتها وكينونتها وكيانها وتُسهم في “محو وطمس التقاطعات الوهمية الموضوعة بين الشعر والنثر، ومن تم لم يعد للحدود أي حضور في الشعرية العربية المعاصرة المتخلِّقة من صلب هذه الثنائية الأبدية في الخطاب الإبداعي، وعليه فالإبداع الشعري تجاوز الجانب التزييني المرتبط بالشكل، إلى ما يحقق شعريته عبر الاشتغال باللغة”(12)، ومن ها هنا، يُمكننا الحديث عن كتابةٍ عابرةٍ للأجناس، جوهرها المشترك الإنساني والوعي الجمالي بإمكانية إلغاء هذه التخوم المفتعلة بين الشعر والنثر. من جانبٍ آخر يؤكد الباحث المغربي صالح لبريني على أن “التواشج بين الشعر والنثر لا يعني اتفاقهما في السمات والخصائص، بقدر ما يدل على كون كل واحد منهما، يتصف بصفات مغايرة عن الآخر، فإذا كان الشعر يتسم بالكثافة والإيجاز والإيحاء والتوتر والمجاز، فإن النثر يمتلك خصيصة الوضوح والسهولة، وبالاطراد والتتابع،- على حد قول أدونيس- فإن هذا لا يحول التأكيد على العلاقات الوشيجة بينهما”(13)، ووجَبَتِ الإشارة هنا، إلى أن الحكي أو السرد خصيصة جوهرية في القول الشعري، فقصائد شعرائنا القدامى لا تكاد تخلو من النّفس السردي- الحكائي، وبالتالي، فإن حضور السرد في الشعر يُمَثِّلُ ملمحاً أساسياً من الكتابة الشعرية العربية وليس أمراً جديداً مُستحدثاً، ذلك أن “السرد بنية أصيلة في الخطاب الأدبي سواء أكان سرديا أو روائياً أم شعرياً مهما اختلفت الأنواع، لأن رغبة الإنسان في الحكي رغبة إنسانية تكشف رؤيته للأشياء وتحدد علاقته بالعالم، إنها رغبة في التطهير، والبوح وإعادة صياغة العالم وهو في حالة تجلّ”(14). لنقلْ، إن الأمر مرتبط بالرغبة. الرغبة في البوح والتّحاور والتّدفق بكل عفويةٍ، وهذه الخصيصة هي من تجليّات الإنسان في الوجود والمعرفة، فهو تحديداً، كائن يعمد إلى تأسيس وجوده بناءً على الحكي وإبراز علاقاته المتشابكة والمتشعبة مع العالم والأشياء والمجتمع، ومن ثم، فإن هناك تقاطعاً عميقاً بين الشعر والسرد، وهو ما عبّر عنه جيرار جنيت بالقول:” الشعر الغنائي هو ذات الشاعر، وفي الشعر الملحمي (أو الرواية) يتكلم الشاعر باسمه الخاص، بوصفه راوياً، ولكنه أيضا يجعل شخصياته تتكلم..(15)، فهذا العبور السردي في الشعري، منح الشعر رؤى أخرى، وقدرة على احتضان كل الأشكال التعبيرية، بل يُحوّلُ التنابذ بين الشعر والنثر إلى أفق جمالي يستثمر كل الطاقات التي بمقدورها خلخلة الثوابت والتأسيس لشعرية المخالفة والاختلاف.
هوامش الدراسة: