ابن المعتز العبقرية العباسية وأمير الشعر الخيالي
ينحدر عبد الله بن المعتز من أسرة عريقة في الثقافة والمجد والملك، ولد في الثالث والعشرين من شعبان عام 247ه في سامرَّاء[1]، متصلا بنسب بزغ منه عدد من الخلفاء العباسيين في حقب زاهرة.
ولد بن المعتز في عهد زاهر من عهود الخلافة العباسية، وترعرع في بحبوحة العيش الرغيد والعزة الملكية. فأبوه محمد المعتز تولّى العرش عام 252ه، ومكث فيه خليفة ثلاث سنين، إلا أنه قد قُتل بعدها على يد الأتراك، الذين كان في يدهم جميعُ أمور الدولة، إبّان هذه الفترة الحافلة.
تلك صدمة كبرى يصاب ابن المعتز، كان لها أكبر الوقع في حياته ونفسه، فهو الذي أولاه العناية والاهتمام، وأستاذه الأول الذي كان يدرّبه على نظم الشعر[2]. ورث عنه كل طباعه، فهو مثله جميل السجايا، رقيق المشاعر، وكان ذكي القلب صافي العقل[3]. إلا أن الدنيا قد ضاقت عليه بما رحبت بفقد والده، فأوصدت أمامه آماله الواسعة قائلا:
يا نَفس لي بقَومٍ مَضَوا بخَيرِ عُمْري، ولم أجِدْ إذْ مَاتُوا، |
كَانُوا كِرَاماً زُهْرَا وَتَرَكُوا لِي الشـرّا لي في الحياةِ عُذْرَا |
لقد فقد ابن المعتز منبعا خصبا للبرّ والحنان الصادق، الذي كان ينساب في أعماقه، ويخفف من وطأة المغرضين والحساد، خصوصا وأنه ما يزال صغيرا، أي في مفترق الأعمار، حيث تبدأ الشخصية في نضجها، وتتحدد معالم الاختيار في الحياة. فأمه جارية رومية، ووالده عربي عباسي، وهذا التلاقح سيكون له أكبر الوقع في نفسيته وعقليته وفهمه للحياة، وكان تأثير هذه الأسرة على تكوينه عظيما، مما ردده في شعره، ونطق به في روائع فخره. فأضاف إلى ترفه الذي نشأ منغمسا فيه إقبالا متصلا على الدرس منذ نعومة أظفاره، حتى ليفلت ذلك البحتري، وهو ما يزال صغيرا[4]، فيمدحه[5]:
أَبـا العَـبّـاسِ! بَـرَّزتَ عَـلى قَومِــ فَأَمّـــا حَلْبَةُ الشِّعـــرِ فَتَسْتَــــــولي |
ـكَ آدابـاً، وَأَخــلاقـاً وَتَـبـريــزا عَلى السَبقِ بِها فَــرضاً وَتَميِيزا |
وربما لا أكون مغاليا، إذا قلت: إن البحتري لم يبالغ في مدحه، بيد أن البيتين وقصيدتهما[6] تبين بجلاء أن ابن المعتز أتقن معارف عصره، وتشرّب حبّ اللغة والأدب مبكرا، فقضى عهدا حافلا بالمجد والمكرمات والأمن في ظلال والده. بيد أن الدهر لم يمهله الفرصة لإظهار مدى براعته وثقافته، وعهده المترف لم يدم طويلا، وكأن أيامه تسير نحو الشقاء والجحيم والحرمان، وإذا بحياة الترف والملك تصبح نفيا وتشريدا. فما هي أسباب نفيه إلى مكة؟
علل المؤرخون ذلك، بأن جند الأتراك لما قتلوا والده، شردت أسرته وصودرت أموالها، وأحاط بها الفزع من كل جانب، فنفوه إلى مكة وهو في مقتبل العمر، ومعه جدته أم المعتز. بيد أن خفاجي رجح بأنه لم ينف إلى مكة بعد مقتل والده، بل ظل في قصر والده رهن الأحداث، وأخذ يعيش على ما بقي من أمواله”[7] وهو الشيء الذي لم تشر إليه المصادر التاريخية التي ترجمت له.
هكذا عاش ابن المعتز في حياته محنتين قاسيتين، أثّرتا في نفسه آثارًا بعيدة: محنته التي امتُحن بها في أبيه، ومحنته بالنفي، وعذابه ونكاله، وما مرّ به أثناء ذلك من أمل ويأس ورجاء وقنوط، مع ما صَليَ به من حزن عميق على أبيه، مما ظل له أثر بعيد في نفسه، وهو أثر يتراءى بوضوح في أشعاره، إذ يطالعنا فيها دائما الإحساس بالشكوى وآلام الحياة، وما تكتظ به من فواجع، كبّرها في نفسه وخياله، فما كان ينعم به في صباه من ترف وحياة لاهية، لم تلبث أن حفَّت بها الدماء المسفوكة، دماء جده وأبيه، كما حفَّ بها النفي والتشريد، فإذا النعيم يصبح جحيما، وينقضي عهده إلى غير مآب[8]، فامتلأ وجدانه شعورا بالضياع والعزلة، وأصبح واهن القوى. وفي ذلك يقول[9]، باكيا صباه بدموع غزار:
لَهْفي عَلَى دَهْرِ الصِّبَا القَصِيرِ وسُـــكْرهِ وذَنْـــبـــــهِ المـَـغْـــفُـور |
وغُصْنِهِ ذِي الــوَرَقِ النَّضِيرِ وَمَرَحَ القُلُــوبِ في الصُّــدُورِ |
فعاش ما سماه بـدهر الملمات والخطوب، ويدعو قلبه للتسلح بالصبر، قصد تجاوز المحن والأسقام التي أحلّت به، يقول[10]:
أَيا مَعقِلي لِلنائِباتِ وَإِن قَسَت خُلِقتُ لِأَسقامِ النَوى قَبلَ كَونِها |
عَلَيَّ خُطوبُ الدَهرِ وَهِيَ تَلينُ فَكَيفَ تَراني إِن نَأَيتُ أَكونُ |
دار عام وهو في المنفى، وأخذت شؤون القصر تستقيم، لما تولى المعتمد الخلافة 256هـ، فأرسل في طلبه للعودة إلى سامراء، فعاش ابن المعتز في ظل خلافته ناعما بالعناية والطمأنينة، الدليل على ذلك قصائده التي يمدحه بها[11].
وأخذت جدته أم المعتز تعتني بتربيته، وأحضرت له المعلمين، فتلقى ثقافته في مختلف العلوم على يد أئمة العربية في عصره، كالضبي[12]، والبلاذري[13] والمبرّد[14]، وثعلب[15]، والأسدي[16]، وابن أبي فنن[17]، والعنزي[18]، وسواهم من فحول العلم والأدب حين ذاك. وكان يلتقي المبرّد وثعلبا قبل انتقاله ونزوله ببغداد، بيد أن ثعلبًا قد قطعه وقتا، فكتب إليه من قصيدة طريفة يتشوَّقه[19]:
يَــا فَاتِحًا لِكُــلِّ عِلْمٍ مُـغْــلَـقِ إِنْ قَالَ هَذَا بَهْرَجٌ لَمْ يَنْفُقِ |
وَصَـيْرَفـِيًّا عَـالِمًا بِالْمَـنْطِــقِ[20] إِنّـا عَلَى الْبِعَــادِ وَالـتَّـفَـــرُّقِ |
||
لِنَلْتَقِي بِالذِّكْرِ إِنْ لَـمْ نَلْتَقِ | |||
ولما كبر وترعرع، تجلى ميله الفطري الأدبي، وانعزل عن ضوضاء المجتمع، وعن جو الدسائس والمغرضين، فكرس جهوده لحياة العلم والأدب، حتى أصبح شاعرا متمرسا، ونحويا بديعا، ولغويا متميزا، خبيرا بفنون عصره. ويمكن أن نتلمس مدى إتقانه لهذه العلوم والفنون، وأن موهبته الشعرية قد ارتقت إلى النضح الفني، ما ذكره المرزباني[21] : “أن البلاذري[22] سعى عند جدته أن تأذن له في أن يصبح من معلميه ومؤدبيه، فلما بلغ ذلك معلمه أحمد بن سعيد الدمشقي[23]، لزم بيته غضبان لما بلغه عنها، وعلم ابن المعتز بغضب أستاذه، فكتب إليه أبياتا يترضاه بها، وله إذ ذاك ثلاث عشرة سنة، وهي تصور ثقافته تصويرا دقيقا، يقول في مطلعها[24]:
أَصْبَحْتَ يَا ابْنَ سَعيدٍ حُزْتَ مكرَمَةً سَرْبَلْتَـــنِي حِكْمَةً قَــدْ هَذَّبَتْ شِيَـمِـى |
عَنْهَا يُقَـصِّرُ من يَـحْــفَــى وَيَنْــتَـــعِــــلُ وَأَجّجْتَ غَرْبَ ذِهْنِي فَهُوَ مَشْتَعِـلُ |
كانت سامراء مجمع التيارات الفكرية لعدة عقود من الزمن، يتواجد فيها اللغويون والمفسرون والفلاسفة على اختلاف مذاهبهم، فسنحت فرصة مواتية لابن المعتز ليسمع ويصقل ذهنه كثيرا. ولم يقف عند الأخذ، بل أسهم في مناقشات المجالس، وذاع صيته في الأمصار الأخرى، والتفتت إليه أنظار الخاصة والعامة، حتى أصبح محل التَّجِلَّة والإكرام، مما حرك حقد الحسدة والأعداء عليه، فبدأوا يوشون به ويلفقون التهم ضده، وينغصون عليه الحياة. فاعتبره بعضهم من منتحلي الشعر، يتكسّب به في قصر الخلافة، لكنه لم يأبه للتهم ولم يهتم، يقول:
مَا عَابَني إِلَّا الحَسُودُ وَالْمَجْد والحُسَّاد مَقْرُو |
وتِلكَ مِن إِحْدَى المَنَاقِبْ نَانِ إِنْ ذَهَبُوا فَذَاهِبْ |
وبقي الحساد يلاحقونه ويشوهون صورته، لكنه ظل رجلا طامحا قوي الشخصية، استغل إمكاناته في تحقيق آماله الناضرة التي كان يموج بها فؤاده، ليصبح شاعرا مجيدا خبيرا بفنون الشعر وصناعته، فبقي يبحث عن حاجته وما يطرد عنه الخطوب، بالتقرب إلى الخلفاء وإرضائهم، ليعيش حياة الاطمئنان، غير طامح بالخلافة، فجاءت آثاره الشعرية تعبيرا صريحا عن تلك المواقف، ولذلك لم يسمح لنفسه التلاعب بالدين، ولا بتسخير العلم لتحقيق أغراض شخصية. وسرعان ما تجاوَبَ مع هذه الحياة الأدبية بعيدًا عن السياسة، وبرَز فيها حتى صار من كبار الشعراء في عصره، يقول[25]:
شُغلِي إِذَا مَا كَانَ لِلنَّاسِ شُغُلُ دَفْتَرُ فِقْهٍ أَوْ حَدِيثٍ أَوْ غَزَلِ
ومما ينبغي التنبيه إليه، أن المجالس التي تقام في بيته لم تكن لهوا خالصًا، بقدر ما كانت محجًّا لرواد الأدب، أمثال أستاذاه المبرّد وثعلب، وهذا ما عبّر عنه الصولي في قوله: “كانت داره مغاثا لأهل الأدب، وكان يجالسه منهم جماعة، وكان رأيه مخالفا للعامة”[26]. وأخذ يجاهد في سبيل حياته وطموحه، مفتخرا بنفسه وبعلمه، قائلا[27]:
وَأَسهَرُ لِلمَجدِ وَالمَكرُماتِ إِذا اِكتَحَلَت أَعيُنٌ بِالكَرى[28]
فبعد تلك النكبات والمحن المريرة والثقيلة على نفسه، فرغ من ملذاته ولهوه، وبدأ حياة جديدة مفعمة بالجد والإقدام، وهو يحيا حياة الرجولة المكتهلة، والرأي الناضج، والحكمة العميقة، والتجربة الصحيح[29]، من ذلك قوله[30]:
يا صاحِ! وَدَّعتُ الغَوانِيَ وَالصِّبَا | وَسَلَكتُ غَيرَ سَبيلِهِنَّ سَبِيلَا |
ولما توفي المكتفي سنة 295ه، تولى الخلافة من بعده ابنه المقتدر وهو صغير، فاجتمعت جماعة من القواد والقضاة واتفقت على خلع المقتدر، وتولية ابن المعتز، وبايعته في اليوم الموالي. ولم يكد يمر يوم وليلة على بيعته حتى تحزب أصحاب المقتدر، وحاربوا أعوان ابن المعتز وشتتوهم، وأعادوا المقتدر إلى دَسْتِهِ، واستخفى ابن المعتز في دار ابن الجصاص[31]، فأخذ المقتدر وسلّمه إلى مؤنس الخادم، فقتله وسلمه إلى أهله ملفوفا في كساء، سنة ست وتسعين ومائتين[32].
ولعله يشعر بقرب الفجيعة ويخافها، وَلهُ كلام بَدِيعٌ منه، يقول: “أَشْقَى النَّاسِ أَقْرَبَهُم مِنَ السُّلْطَانِ، كَمَا أَنَّ أَقْرَبَ الأَشيَاءِ مِنَ النَّارِ أَسْرَعُهَا احْتِرَاقاً”[33]، إلا أنه لم يعمل بحكمته، فجرت له الكائنة في خلافة المقتدر.
وهكذا ذهب ابن المعتز ضحية غدر ومؤامرة، ولف الضّباب مأساته، حتى تضاربت الروايات حول مقتله، وانطلقت ألسنة الحقد في تشويه سمعته بعدما تناولته سيوف المطامع. ومهما اختلفت الآراء والأقوال حول حياته، فإن علمه عوّضه إخفاقه في السياسة، وبوّأه مكانة رفيعة في تاريخ الثقافة العربية تشهد له بالعبقرية.
يقول فيه ابن رشيق: “وليس في المولدين أشهر اسما من أبي نواس ثم حبيب والبحتري، ثم يتبعهما في الاشتهار ابن الرومي وابن المعتز، فطار اسم ابن المعتز حتى صار كالحسن في المولدين، وامرئ القيس في القدماء”[34]. وقال أيضا: “وما أعلم شاعرا أكمل، ولا أعجب تصنيعا من عبد الله بن المعتز؛ فإن صنعته خفية لطيفة، لا تكاد تظهر في بعض المواضع، إلا للبصير بدقائق الشعر”[35].
هذا التميز في الصنعة بلغت غايتها مع ابن المعتز، وهذا ما أكده البهبيتي بقوله: “وبابن المعتز يصل الشعر إلى أرقى وأجمل ما وصل إليه من ارستقراطية وشرف، قد اشتقهما من نفس صاحبه اشتقاقا، وانتزعها من كيانه انتزاعا”.[36]
إن المتأمل في ديوان ابن المعتز يدرك تنوع الموضوعات التي يزخر بها شعره، ويضم كل أغراض الشعر، كالوصف والمدح والغزل والفخر والهجاء والرثاء والطرد والزّهد والعتاب والحكمة. وقد أشاد النقاد بشعره وجودته وروعة معانيه، وسهولة ألفاظه. يقول الصولي عنه الذي اهتم بجمع شعره وروايته: “شاعر مفلق محسن، حسن الطبع، واسع الفكر، كثير الحفظ والعلم، يحسن في النظم والنثر، من شعراء بني هاشم المتقدمين وعلمائهم”[37].
وكان ابن المعتز ممن فتنوا بالتشبيه، حتى أصبحت تشبيهاته محطّ اهتمام وإعجاب لدى كثير من النقاد، وظلت أشعاره في التشبيه شواهد في كتب البلاغة والنقد على امتداد العصور. ونقرأ في كتاب العمدة: “وقالت طائفة من المتعقبين: الشعراء ثلاثة: جاهلي وإسلامي ومولّد؛ فالجاهلي امرؤ القيس، والإسلامي ذو الرّمة، والمولّد ابن المعتز، وهذا قول من يفضل البديع، وبخاصة التشبيه على جميع فنون البديع”[38]. وقال الحموي عن شعره: “فأما شعره فهو الغاية في الأوصاف والتشبيهات، يُقرُّ له بذلك كلُّ ذي فضل”[39].
وإن عنايته بهذا الفن وبراعته فيه، جعلت من تشابيهه فنا بديعا يشبه السحر: “وأنت تجد في شعر ابن المعتز من التشبيه البديع الذي يشبه السحر، وقد تَتَّبع في هذا ما لم يتتبع غيره، واتّفق ما لم يتّفق لغيره من الشعراء”[40]. وذكر ابن رشيق أن التشبيه تَغَلَّبَ على طريقة ابن المعتز فانقاد إليها طبعُه.
وبهذا، يتضح جليا، أن هذه النصوص وغيرها رغم قصرها بالغة الأهمية؛ لأنها تكشف عن قدرات ابن المعتز في فنون الشعر وعبقريته من جهة، وتكشف من جهة ثانية عن وجود منهج بديع في التشبيه لا يُرى له مثيل في شعر غيره من شعراء زمانه، لعل هذا المنهج الجديد هو الذي أكسبه لقب “أمير الشعر الخيالي”. فابن المعتز له مقدرة خاصة في صبْغِ التشبيه؛ وخرج به عن نطاقه القديم، حيث حوله إلى صبغ مستقل غني وواسع، يستخرج منه ضروبا متعددة، يزيّن بها شعره، وهنا يتبيّن مظهر من مظاهر التصنيع البديع في شعره.
وقد أشاد به الجرجاني والأصفهاني وابن رشيق في غير موضع من كتاباتهم، وكان أكثر تركيزهم على أوصافه وتشبيهاته؛ لأنه كان أقدر الشعراء توظيفا لأصباغه، وتفوقه في تصنيعه. ولم يتأتى لشاعر آخر أن يأتي بمثلها، حتى إن البعض لام ابن الرومي، وكان معاصرا لابن المعتز أن يقول تشبيها مجاريا لتشبيهاته ، فقيل له: لم لا تشبه تشبيه ابن المعتز وأنت أشعر منه؟ قال: أنشدني شيئًا من قوله الذي استعجزتني في مثله، فأنشده في صفة الهلال[41]:
فَانْظُرْ إِلَيْهِ كَزَوْرَقٍ مِنْ فِضَّةٍ قَدْ أَثْقَلَتْهُ حمُولَةٌ مِنْ عَنْبَرِ
فقال: زدني، فأنشده:
كَأَنَّ آذَرْيُونَهَا مَدَاهِنٌ مِنْ ذَهَبٍ |
وَالشَّمْسُ فِيهِ كَالِيَهْ فِيهَا بَقَايَا غَالِيَهْ |
فصاح: واغَوْثَاه، يا الله، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها[42].
تبين هذه الأبيات ونظائرها المبثوثة في الديوان مقدرة بارعة لابن المعتز في توظيف التشبيه توظيفا ثريا، يستنبط منه أنماطا أخرى متعددة، وهل هناك أروع من هذا الهلال الذي يشبه زورقا من فضة أثقلته حمولة العنبر؟ لقد زاوج في تشكيل هذا التشبيه بين الصورتين البصرية والعطرية.
وفيما يبدو، إن لابن المعتز منزلة رفيعة في الشعر وفهمه ونقده، شهد له بالتفوق والبراعة في مختلف فنون الشعر، فكان من الطبيعي أن يأخذ بطبع الشعر، وأن يضرب في كل أغراضه، ولقد أجاد إجادة بيّنة في المديح والوصف بأنواعهما، بل إنه جدد فيهما وأصبح “أمير الشعر الخيالي” في المرحلة العباسية، ومن ثم فهو يشكل مرحلة من مراحل تطور الشعر العربي في العصر العباسي.
وعلى الرغم من قصر عمره، فقد استطاع ابن المعتز أن يترك تراثا علميا أدبيا حافلا، يشهد له بسعة الاطلاع، ودقة التفكير شعرا ونثرا ونقدا وبلاغة، وهذه الآثار كلها تكشف عن عبقرية عباسية فذة في تاريخ الثقافة العربية، وبذلك يمثل ظاهرة “الشاعر الناقد البلاغي”، فهو ممن مارسوا قول الشعر، وضربوا بسهم في مجال النقد والبلاغة، كما يتضح جليا في مصنفاته.
الهوامش:
[1] الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، مطبعة السعادة طبعة القاهرة 1931م، 1/101.
[2] شوقي ضيف: تاريخ الأدب العربي، العصر العباسي الثاني، دار المعارف بمصر، ط2، ص 336.
[3] نفسه، ص 325.
[4] شوقي ضيف: العصر العباسي الثاني، ص 325.
[5] ديوان البحتري، تحقيق حسن كامل الصيرفي، دار المعارف مصر، ط3، د.ت، 2/1119.
[6] انظر القصيدة كاملة في ديوان البحتري، 2/1119.
[7] محمد عبد المنعم خفاجي: ابن المعتز وتراثه في الأدب والنقد والبيان، ص 74.
[8] شوقي ضيف: العصر العباسي الثاني، ص 326.
[9] أبو هلال العسكري: ديوان المعاني، مكتبة القدس القاهرة، 1352هـ، ص 2/153.
[10] ديوان ابن المعتز، ص430.
[11] انظر: أبو بكر الصولي: كتاب الأوراق، أشعار أولاد الخلفاء وأخبارهم، مطبعة الصاوي بمصر، 1936م، ص 125-127-130.
[12] نحوي كوفي وصاحب أخبار وأدب، ومن أشهر مؤدبي ابن المعتز، توفي (231ه).
[13] أحد مشاهير المؤرخين، ومن الرواة المعروفين بالحذق والإتقان، صاحب كتاب: “فتوح البلدان” و”أنساب الأشراف”، توفي (279ه).
[14] كان إمام العربية وشيخ النحو ببغداد، وعالم فاضل موثوق به في الرواية، مؤلف كتاب “الكامل”، توفي (286ه).
[15] إمام الكوفيين في النحو واللغة والفقه، توفي (291ه).
[16] المعروف بصعودا، من أعيان أهل الكوفة وعلمائها، عارف بالنحو واللغة وفنون الأدب، توفي في أواخر القرن الثالث الهجري.
[17] أحد الشعراء العباسيين المشهورين في عصره، توفي في أواخر القرن الثالث الهجري.
[18] المحدث الأديب، وأحد الرواة الثقاة في عصر ابن المعتز، توفي (291ه). انظر: ياقوت الحموي: معجم الأدباء، ت. إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط1، 1414هـ/ 1993م، 4/1520.
[19] أبو الطاهر البرقي: المختار من شعر بشار، اختيار الخالدِيَّيْن، لجنة التأليف والترجمة والنشر، د.ت، ص 53.
[20] وقيل: نَاقِدُا، انظر: ديوان ابن المعتز، تحقيق كرم البستاني، دار صادر بيروت، ط1، ص 337. وانظر: شوقي ضيف: العصر العباسي الثاني، ص 327.
[21] كتاب: الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء، ت.علي البجاوي، دار الفكر العربي، ط2.
[22] أبو بكر أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البلاذري، مؤرخ وراوية ونسابة وشاعر، عمل في بلاط الخلفاء العباسيين، صاحب كتاب: “فتوح البلدان”، توفي سنة 279هـ.
[23] أحمد بن سعيد الدمشقي المحدث الإخباري المتفلسف ت306هـ، نزل ببغداد وأخذ عن علمائها وأدبائها، تولى تأديب ابن المعتز.
[24] ياقوت الحموي: معجم الأدباء، تحقيق إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي بيروت – لبنان، الطبعة الأولى، 1993م، 1/ 266-267.
[25] أبو هلال العسكري: ديوان المعاني، 2/428.
[26] أبو بكر الصولي: كتاب الأوراق، ص 107.
[27] ديوان عبد الله بن المعتز، مطبعة الإقبال بيروت، 1914م، ص6.
[28] الكَرَى: النوم
[29] عبد المنعم جفاجي: ابن المعتز وتراثه في الأدب والنقد والبيان، ص 48.
[30] ديوان ابن المعتز، ص 375.
[31] أبو عبد الله الحسين بن عبد الله بن الحسن المشهور بابن الجصاص تاجر الجواهر.
[32] انظر: ابن خلكان: وفيات الأعيان، ص 76-77. وشوقي ضيف: تاريخ الأدب العربي – العصر العباسي الثاني، ص 332-333.
[33] شمس الدين الذهبي: سير أعلام النبلاء، دار الحديث القاهرة، 2006، 11/29.
[34] ابن رشيق القيرواني: العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، 1/82.
[35] ابن رشيق القيرواني: العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، باب في المطبوع والمصنوع، تحقيق محي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة بمصر، ط2، 1955، 1/130.
[36] نجيب البهبيتي: تاريخ الشعر العربي حتى آخر القرن الثالث الهجري، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، م1950، ص 517
[37] أبو بكر الصولي: الأوراق، ص 107.
[38] العمدة، 1/211.
[39] الحموي: معجم الأدباء، 4/1520.
[40] أبو بكر الباقلاني: إعجاز القرآن، ت. السيد أحمد صقر، دار المعارف، مصر، 1954، ص 276.
[41] ابن رشيق القيرواني: العمدة، باب من المعاني المحدثة، 2/236.
[42] ابن رشيق: العمدة في محاسن الشعر، آدابه ونقده، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، دار الجيل، الطبعة الخامسة، 1981م، 2/236-237.