أثر الشَّاهد في إرساء مَلامِح النَّقد الثقافيِّ عند عبد الله الغذَّاميِّ
تتَّسمُ أعمال الناقدِ السُّعوديِّ عبد الله الغذاميِّ بالتفرُّد في الطّرحِ، والتمهُّر في انتقاء الشَواهدِ الأدبيَّة بشقَّيها التراثيِّ والحداثيِّ، ومن ثمَّ إعادة قراءتِها بالاستِعانةِ بأدوات معرفيَّة ولُغويَّة ناجزة تُخوِّلهُ الاستفرادَ بمضامينِها الجماليَّة والفنيَّة، عدَا تَضلُّعِهِ بتشريح تِلك الشَواهدِ النصيَّة، واستنباطِ أنساقهاِ الثقافيَّة وفق قراءة إبستيميَّة ضَليعة، تقوم على ثنائيَّة تعارضيَّة: المضمر والظَّاهر، المتن والهامش، القبيح والجميل، المُماثَلة والمُغايرةُ.
ولئن أفضت تلكَ الجهود التحليليَّة المضنيةِ من لَدُنِ النَّاقد إلى ميلادِ توجُه نقديِّ بأنفاسِ ثقافيَّة جديدة في الدِّراساتِ العربيَّة، التي لطالما أرهقَها مرانُ الكلاسيكيَّة التقليديَّة، فإنَّ ذلِكَ يعود أسَاسًا إلى براعة تحيينِ الشَّاهدِ الأدبيِّ وربطهِ بمسارهِ التطبيقيِّ من خلالِ تثويرِ دلالاتهِ المستنسَخة بفعلِ القراءاتِ الأحاديَّة ذاتِ الصيغةِ المكرورةِ.
أينَ يَتِمُّ النبشِ عن مركزيَّتهِ البانيةِ بتخريبِ أنساقِه السُّلطويَّة، ومحاولةِ استنهاض على أنقاضه قراءات استِقصائيَّة تلوذُ بالباطنِ المتعامى عنهُ في الدِّراسةِ والتَّحليل، وهذا لاقتضاءاتِ تاريخيَّة وسياسيَّة، وتستعيضُ عن الظَّاهر الذي يُحالُ إليهِ عادةً بواسِطةِ سلسلةٍ من المجازاتِ اللغويَّة المتساوقة، الأصواتِ النغميَّة ذات الإيقاع المتصاعد، بِالإضَافةِ إلى تلكَ الأساليب التنميقيَّة الموروثة التي يُستعانُ بِها لتضخيمِ بِنيَةِ النَّصِ، وزيادةِ تأثيراتِهِ الشَّكليَّة.
1/الشَّاهد بينَ الرَّافد المعجميِّ والسَّنن الاصطلاحيِّ
والمتبصِّر في الأصولِ المعجميَّة لِكلمةِ الشَّاهدِ سيرقبُ لا محالةَ بعضَ التوافقاتِ المنهجيَّة مع نظيرهِ الاصطلاحيِّ في الدِّراساتِ النقديَّةِ المُعاصرة، فالشاهدُ قد يغتدي مرادفًا للّسانِ باقتراحِ الأزهريِّ فنقول: “لرجُلٍ أبانَ عن حُلوِ الكلامِ بأنَّهُ شاهد، أي طيِّبَ اللسانِ[1]“، في حينَ تتسِّعُ دلالةُ اللَّفظةِ عندَ ابن فارسٍ لتشملَ ثلاثة مفاهيم رئيسيَّة، و بِالتَّالي نُلفيه يقول: “والشين والهاءُ والدَّالُ أصلٌ يدُلُّ على حضورٍ وعلمٍ وإعلام”[2].
أي أنَّ اللفظة بأبعادهَا الثلاثيَّة هيَ ضدَّ الغيابِ والاحتِجابِ والاختِفاء.
ولا مندوحَة أن تُذكر لفظةُ الشاهِدِ في آيِّ القرآن الكريم، بصيغٍ صرفيَّة متنوِّعة، ذلِكَ أنَّهَا تُؤشِّرُ في مُعظَمِهَا على المُعاينةِ البصريَّة لكراماتِ الأنبيَاء والرُّسلِ والتَّصديقِ عليهَا كَحُجَةِ دامِغة تطردُ الشُّكوكَ وتزيلَ الحيرةَ عَنِ المؤمنينَ من ذلكَ قول الله تعالى من سورةِ آل عمران:
﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ سورة آل عمران، الآية رقم:53
أيِّ أنَّ الآيةِ هي إقرارٌ من لدنِ المؤمنينَ بأنَّهم صادقوا عيسى عليهِ السَّلام، وائتمنُوا رسالتَهُ، وتواضَعوا على دلائِلِ نبوَّتِهِ، وقد يكونُ الشَّاهِدُ دليلًا مضادًا لأولئكَ الذينَ التمسُوا حُجيَّة النبوَّةِ وتراءت لهم علاماتُها المُنجيةِ، لكنَّهم كانوا لها مِنَ الجَاحِدين، وهو مَا نَستَظهرهُ من سياقِ الآية التاليةِ: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ سورة آل عمران، الآية رقم:70.
تُؤكدُ البِنيَةُ الخطابيَّة “أنتم تَشهَدون” عَلى وجودِ إنكارٍ علنيِّ لآياتِ الله الكونيَّة معَ أنَّ المخصوصينَ بِالخِطاب وهم المشركون والكفَّار يعلمون صِدقَهَا ويَتحقَّقونَ حقَّها، لكنَّهم يتعمَّدون طمسَها استجابةً لأهوائِهم المارقَةِ عن حدودِ الله.
يستوفيِّ الشاهدٌ أيضا صِّيغتينِ مقدَّستينِ، وفضاءين مُتخَميِّن بالرمزيَّة الإسلاميَّة والطُّهر الدِّينيِّ، وهو مَا تبوءُ بهِ الآية الثالثة من سورةِ البُروج: {وشاهِدٍ ومشهودٍ}.
جَاء في تفسير الطَّبريِّ “أنَّ الشَّاهد هو يومُ الجمعة، والمشهودُ هو يوم عرفة”[3].
وقَد أخذَ الشَّاهدُ يتسَّعُ رويدًا رويدا في الثقافةِ العربيٍّة خاصة في منتصفِ القرنِ الثَّالثِ الهجريِّ نتيجة احتدامِ الصِّراعِ بينَ الفرقِ الكلاميَّة والنِّحلِ المذهبيَّة، فكانَ من يُؤتيِّ بالدَّليلِ القاطعِ والشَّاهدِ الملائِمِ لسياقِ الفكرةِ يُتاحُ له كسبَ الرِّهانَ وقصمِ ظهورِ خصومهِ، وهذا الذي جرى للجاحظِ أيَّام تسعُّر الخلافِ مع الشُّعوبيّين: “متَى أخذتَ يدَ الشُّعوبيِّ، فَأدخلتُهُ بلادَ الأعراب الخلَّص، ومعدنَ الفصاحةَ التَّامة، ووقَّفتَهُ على شَاعرٍ مُفلق، أو خطيبٍ مِصقع، علِمَ أنَّ الذيِّ قُلتَ هو الحق وأبصَرَ الشَّاهدَ عينًا”[4].
ولاريبَ أن تجرُّنا مقولةُ الجاحظِ إلى حقيقةٍ نقديَّة بِعينها وهي أنَّ التَّحقيرَ الذي لطالَما أبداهُ رعاةُ الشعوبيَّة تجاهَ العربَ قد يؤولُ فخرًا، لو جالَ الشعوبيُّ بلاد الأعرابِ، واطلَّع على ما فيهَا من شواهدَ إبداعيَّة ماثلة وعاينَها بعمق من شِعريَّاتٍ ممتدَّة الأغراضِ، وخطبٍ يكسوها البيانُ والفَصاحةَ، وهذا من تمامِ صنعةِ العربِ وهو تجويدُ الكلامِ ونظمهِ.
ويَعضدُ طالبُ العلمِ بِالشَّاهدِ فهو سبيلهُ لِتَمتينِ قاعدتهِ المعرفيَّة، وغايتُهُ لتطوير كفاءتهِ اللغويَّة بحسبِ تصوِّر الناقد العربيِّ القديم ابن رشيق المسيليِّ : “فكلَّما أكثرتَ من الشَّواهدِ فإنَّما أريد بذلكَ تَأنيسُ المُتعلِّم وتجسيرهِ على الأشياء الرَّائقة”[5].
ويُرادُ بالتَّجسيرِ والتَّأنيسِ في هذا الموضعِ الوصولَ لذروةِ الانتشاء المعرفيّ والعلميِّ عَبرَ اتِّخاذِ الشَّاهدِ أداةً تفسيريَّة للموادِ العلميَّة الأكثر غُموضًا والأشدَّ اِعتياصًا على الاِستيعابِ والتَّحصيلِ، فَتنقادُ لكَ طيِّعةً غيرَ ناشزة، بفضلِ سُلطةِ الشَّاهدِ.
ويُرادفُ الشَّاهدُ مصطلحاتِ الإقناعِ والحِجاج في صِبغتِها المُعاصرةِ، الأمرُ الذيِّ نَلمَحهُ بالتَّسانُدِ إلى ما رواهُ المسعوديِّ في كتابهِ “مروج الذَّهب” أين وقع سجالٌ بين الحجاجِ بن يوسفِ الثقفيِّ وسُمرةَ بنُ الجعد، حيثُ قال لهُ الحجَّاج هل تروي الشِّعر، فردَّ عليهِ ابن الجعد مجيبًا: إنِّي لأروي المثل والشَّاهد، قال الحجَّاجُ مُستفسِرًا: أمَّا المثَلُ عرفناهُ، فمَا الشَّاهدُ؟، فأجابَ بن الجعد: اليوم يكونُ للعربِ من أيَّامِها شاهدٌ، فأنَّا أرويِّ ذلك الشَّاهد”[6].
فالشَّاهدُ هنا يتنزَّلُ مقامَ الذاكرةِ التي تُعنى بتقييدِ مآثر العربِ، فاستدعاؤه كلَّما اقتضت الحاجةِ يُعدُّ جُنوحًا منهجيًّا لتوثيقِ مُنجزاتِ العربِ الشِّعريَّة والنثريَّة التي تُحاولُ تطويقَ الحدثَ التَّاريخيِّ.
2/ الشَّاهد وإدانةِ نَسق التَّفحيلِ في الشِّعريّة العربيَّة
يسـتأهلُ عبد الله الغذاميِّ في كتابهِ النقد الثقافيِّ النَّكشَ في بواطنِ الشعرياتِ العربيَّة القديمةِ لتعريةِ بعضِ العيوبِ النسقيَّة المُتعامى عنها ثقافيَّا والتي تتَّخذُ من التَّورياتِ البلاغيَّة، والمَجازاتِ الفنيَّة أداةً للتملُّص من سلطةِ النَّقد كفكرة الفحولةِ التي لطالَما تدثَّرت بعباءة الجماليِّ لتؤسِّس لسلوكِ غير إنسانيِّ يتسرَّبُ للقصيدةِ العربيَّة عبر تعاقبِ الأزمنةِ.
لعلَّ تجّذُل الفحولة في نسق الشعريَّةِ العربيَّة مردُّهُ تِلكَ المغايرة الوظيفيَّة لأغراضِ القصيدة بانتقالها من طورِ النَّاطقِ الرسميِّ للقبيلةِ إلى طورِ الخطابِ الذاتيِّ الذي تتعزَّزُ فيهِ قيمُ المصلحةِ الشخصيَّة والفرديَّة الطَّاغيةِ والانتحالِ البلاغيِّ، وكذَا تضخيمِ الأنا الشَّاعرةِ، ويُدلّلُّ عبد الله الغذاميِّ على صحَّةِ مقولتهِ عبر استِدعاء الشَّاهدِ النقديِّ الذي بسطهُ عمرُ بن الخطَّابِ رضي الله عنهُ :{هوَ عِلمُ قومٍ لم يكن لهم عِلمٌ سِواه”[7]}.
لقد أزاحَ الشَّاهدِ عديدَ الالتباساتِ التي تداعَت على القارئ العربيِّ حول الجدوى من روايةِ الشِّعر وحفظهِ والعملِ بأطاريحهِ البلاغيَّة وصورهِ الوصفيَّة، وهذا بتشريحِ العيوبِ النسقيَّة والأعطابِ الأخلاقيَّة التي أصابت مؤسَّستهُ الخِطابيَّة بانتقالهِ من صوتِ جمعويِّ يذودُ عن الأمة ويصونُ القبيلةِ بتعريفِ عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه، إلى صوتِ ناشز طافحِ بالفُحولةِ وهذا بسببِ ظهور ثنائيَّة المادحِ والممدوح وما اِنجرَّ عنها من قيمٍ خطابيَّة قبيحةٍ كالكذب البلاغيِّ، والتملُّق أمامِ عتباتِ المُلوكِ السَّلاطينِ، وملاينةِ أهلِ الباطل واستعطافهم كي يغدقوا عليهِ دراهم معدودة.
إنَّ تلكَ الملاحظاتِ النقديَّة الصميميَّة ليست وليدة انطباعِ نفسيِّ مؤقَّت، بل هي نتاج عمل دؤوب في البحثِ والقراءةِ الانتاجيَّة الشَّارحة التي تتذرَّعُ بالتَّأويل الخِصب والمساءلةِ النوعيَّة لسيرةِ الشعراءِ القدامى، كتلكَ الشهادة التي أبداها الفرزدق في خضَّم الكَسَادِ الأخلاقيِّ الذي مسَّ القصيدة العربيَّة: “أطعتُكَ يا إبليس سبعينَ حُجَّة”[8].
عدا أنَّه يصف نفسَهُ في ديوانهِ الشعريِّ “بأنَّه عذابٌ على النَّاس ونقمة عليهم لكونهِ آثر الانزواء لصفوفِ الظلمةِ ورفعِ أسمائهم عاليًا”[9].
أُصبغَ الشَّاهد الذي ساقهُ عبد الغذاميِّ بطابعِ الإقرار الذاتيِّ والبوحِ العلنيِّ بمكرِ الشُّعراءِ وتحالفهم الجائرِ مع المؤسَّساتِ السلطويَّة القابضةِ على مصائر الشَّعوبِ وهذا في سبيلِ تدعيمِ حَصانتهم، ورفعِ أسهُمِهم السياسيَّة حتّى صارَ العضدُ بالشيطانِ غايةً لهؤلاء الشُّعراء لتثبيتِ مكانَتِهم الاجتماعيَّة وتعزيز مدخراتهم الماليَّة.
لذلكَ ظهرت الروادع القانونيَّة مبكرا في صدرِ الإسلام، للحيلولةِ دون تفاقم الهجاء المقذع والمديح المتصنِّع مِثلَ سِجنِ عمر بن الخطابِ للحطيئةِ بِسبَبِ تطاولهِ على الزبرقانِ، لكن الأمور انفلتَت بعدئِذٍ بسببِ اتِّساعِ الأمصار الإسلاميَّة وتحوِّل الخلافة إلى دويلاتٍ متصارعة، ورغبةِ كلِّ خليفةِ في تخليدِ اسمهِ بدائرةِ التَّاريخ عبر شعرنةِ شخصيتِهِ لغايةِ تماهيها مع الأسطورةِ.
ويعدُّ المتنبيِّ أوَّل من سنَّ هذهِ الخطيئةَ بارتهانه إلى التهويلِ الأسلوبيِّ، والكذب البلاغيِّ في مَدحِهِ لسيفِ الدَّولةِ، حتَّى جعل منهُ كائِنًا أُسطوريًّا خارقًا لا يَطالهُ الموتُ والبَلى وهذا ما يبوء بهِ الشَّاهد الشعريِّ:
وَمُهَذَّبٌ أَمَرَ المَنايا فيهِمِ فَأَطَعنَهُ في طاعَةِ الرَحمَنِ”[10]
لا جرَمَ أن يكونَ المتنبيِّ تحتَ طائلةِ الهلوسةِ المجازيَّةِ المنابذةِ للواقعِ، وإلَّا كيفَ نفسِّرُ انقيادهُ الأعمى لمثِلِ هكذا مُبالغة حيثُ توشَّح البيتُ الشعريِّ بنسقٍ صوراتيِّ مهول، إذ سُخِّرَ الموتُ للمهذَّبِ تكنيةً عن سيفِ الدَّولةِ وانقادَ إليهِ طائعًا ليُخرسَ بهِ أعداءه.
يغتدي هذا الشَّاهدِ بمثابةِ الأداةِ النسقيَّة التعرويَّة التي تفضح المضمراتِ النصيَّة بقبحها الأخلاقيِّ والجماليِّ كمَا أنها تكشفُ عن تحوَّلاتٍ خطيرة مسَّت الشعريَّة العربيَّة، باسترفادها لدلالاتٍ مُضاعفة تتمحور حولَ الذاتِ الطَّاغيةِ المطلقةِ التي تتأسَّس على ثلاثةِ إبدلاتِ إسناديَّة: “منَ النحنُ القبليَّةِ إلى النحنُ النسقيَّة إلى الأنَا الفحوليَّة”[11].
ولا يلبث عبد الله الغذاميِّ في استحضار الشَّاهد الشعريِّ المعاصر لإثباتِ أنَّ قيم الفحولة مازالت مُندسَّة عندَ بعضِ الشُّعراء العرب الذينَ لطالمَا استخدموا الحداثة والتنويرِ لتوريةِ شخصيتهم النرجسيَّة التي تحنُّ إلى المُغالاة كنزار قبَّانيِّ المشغوفِ بِحياكةِ ضميرِ الأنا في قلبِ المركزيةِ الخطابيَّة، ومَا أتبَعهُ من اِرتدادات ثقافيَّة جَسِيمَة، ترمي إلى إحياء الفحولةِ الشعريَّة من جديد:
“ماذَا نقولُ للشَّاعرِ هذا الرجل الذي يحملُ بينَ رئتيهِ قلبُ اللَّه، ويَضطربُ علَى أَصَابِعهِ الجحيم، وكيفَ يُعتذرُ لهذَا الإنسانِ الإله، الذي تُداعبُ أشواقهُ النُّجوم”[12].
ينطوي هذا الشَّاهد على معايب نسقيَّة خطيرة منها محاولةُ استدفاعِ الشَّاعر للدَّوسِ على المحظوراتِ، بتجاوزهِ كلَّ التخومَ التي تفرضها الشّريعةِ، فيستحيلَ وقتئذٍ كائنًا إبداعيَّا متعاليًا لا يخضعَ للنقدِ، ما يُعتبر تكريسًا لعبوديةٍ مُسترذلة، حيثُ لا سبيلَ للنَّاقِد إلا تجويزَ نصوصِ الشَّاعر لكونِها خطاباتِ ربوبيَّة غيرَ مؤهلةٍ للطعنِ والنقدِ.
بينما يتحوَّلُ القرَّاء إلى عبيدٍ يوزَّعُ عليهم الشَّاعر صكوكَ الغفران أنَّى شاء، وتصير المرأة واجهة استهلاكيَّة تَعكسُ بِجلاء، الغرائز الذكوريَّة الخبيئة في أقاصي النَّص الشعريِّ النِّزاريِّ.
إنِّي خَيَّرتُكِ فاختاريِّ.
مَا بينَ الموتِ على صدريِّ.
أو فوقَ دَفاتِرِ أشعاريِّ.
لا تُوجدُ مِنطقةٌ وُسطَى”[13].
فسيرة نزار قبانيِّ علاوة على كبريائِها الجامح الذي يختزلهُ الشَّاهدُ الشعريِّ الآنِفُ الذِّكرِ، فإنَّها تصبو إلى نمذجةِ عقيدة شعريَّة انفصاميَّة بصوتِينِ متغايرينِ يتعاركانِ على أطرافِ القصيدة، صوتٌ حداثيِّ بإحداثياتٍ وهميَّة يستعملُ ألوانًا مِنَ المجازاتِ المعاصرة، القرائن اللغويَّة المُهادنةِ، الأساليب الرومانسيَّة الموزايةِ لاستمالةِ القرَّاء، وحشدهم ضمن نمط تلقينيِّ ضيِّق، وصوت أُحاديِّ مُستتر يهفو إلى انتهاك عُذريةَ اللُّغة حتى يَتَسنَّى لهُ نَحتَ شخصيتهِ الفحوليَّة لأنَّ الكلماتِ بنظرهِ ستظلُّ عذراء إلى أن “يضاجِعها وحينئِذٍ تَتَعهر وتستحيلَ اللغة الشاعريَّة برمَّتِها إلى محض جاريةٍ خادمةٍ لمشروعِ الشَّاعر الفحوليّ”ِ[14].
وعودًا على بدء فقد نجح الناقد عبد الله الغذاميِّ في إقامةِ حواريَّة نقديَّة متراميةِ الأطرافِ تسعُ الحداثة والقدامةِ بواسطةِ سلسلةِ من الشَّواهدِ الشعريَّة والنثريَّة، وهذا قصدَ إثارةِ عديدِ القضايا النقديَّة المسكوتِ عنها لمحتَّماتِ ثقافيَّة وسياسيَّة كظاهرةِ التَّفحيلِ، والارتزاقِ بشعريةِ المديحِ وما شابَها من بزوغ ثنائية المادح والممدوح، وتشكُّل الذاتِ الطَّاغيَّة التي تتَّخذُ من ضمير الأنا ملاذا لها لإفشاء عقدها النفسيَّة المَكبوتةِ.
3/الشَّاهد ومناخُ الحداثةِ المَزعوم.
وليسَ بِدعًا مِن أن يَتَضَايَفَ الشَّاهِدُ معَ كلِّ قراءةِ تجديديَّة يَجترحُها عبد الله الغذاميِّ والتي تتَّصف حتمًا بمعاداةِ القراءاتِ السَّابقة ذاتِ الملمحِ البنيويِّ التي تعقِدُ معيارها النَّقديِّ على الأصوليةِ الشكليَّة، والتَّخريجِ الصوتيِّ، والتلفيقِ الاستعاريِّ، ولذلكَ انساقت كلُّ الأقلام النقديَّة العربيَّة إلى مُباركةِ شعريَّةِ أبي تمَّام وتقريظِ صورِها البلاغيَّة، وتراكيبِها الأسلوبيَّة الماتِعة، بل واعتبارِ تلكَ التجربة الأدبية بمثابةِ الخرق التقدُّميِّ لرجعيةِ اللُّغة والشِّعر.
وهذا تبَعًا لِمَا استحدثُه الشَّاعرُ مِنَ مُبتكراتٍ جديدة في حقلِ الكِتابةِ كالخروجِ عن عمودِ الأوائلِ وتفجيرِ طاقاتِ اللغة وبسطِ توزيناتٍ إيقاعيَّة تُمازج بينَ الخفَّة في الأداء والبراعةِ في التَجنيسِ، والإيغالِ في استِحداثِ المعانيِّ المخيَّلة، هذا بإجماعِ كلِّ النقادِ القدماء والمعاصرين كالآمديِّ والمرزوقيِّ والصوليِّ وصولا لبدر شاكر السِّياب وأدونيس.
بينما يحوزُ النَّاقِدُ عبد الله الغذَّاميِّ على نظرةٍ مغايرة، تتسِّمُ طورًا بالمفارقة، وطورا آخر بالمجازفة، ذلكَ أنَّ أبا تمام شاعرٌ رجعيِّ بأثوابٍ حداثيَّة، إذ مَا برحَ يتزمَّتُ للقدامى ويمتحُ من معينهم المعجميِّ والبلاغيِّ، ضف إلى ذلكَ فمحاكاتُه للأسلافِ ثاويةٌ في وجدانهِ، مترسِّخة في مخيالهِ، لكن كيفَ تناهى هذا الحكمُ العجائبيِّ إلى الناقِدِ السعوديِّ!
لاشكَّ أنَّ الذي تكفَّل بتوريدِ هذا الحكم هو الشَّاهدُ البلاغيِّ المتضمِّنِ من كتابِ الوساطةِ للقاضيِّ عبد العزيز الجرجانيِّ والذيِّ دعَّم به عبد الغذاميِّ رأيهُ:
“إذا سمعتَ هذا أي أشعار أبي تمَّام، فاُسدُد مَسَامِعك، واستنهض ثِيابكَ، وإيَّاكَ والإصغاءِ إليهِ، واحذَر الالتفاتَ نحوهُ، فإنَّهُ ممَّا يُصديِّ القلبَ ويُعميه، ويُطمِسُ البصيرةَ، ويكِدَّ القريحة”[15].
إنَّ التواصي بهذا الشَّاهد ليسَ تدليلا على كُرهِ الغذاميِّ لأبيِّ تمام، أو محاولةِ استعراض بطوليِّ على رُكامِ التُّراثِ، وإنَّما هو رغبته في تَبديدِ تلكَ الأنساقِ الثقافيَّة المنحوتةِ في الذاكرةِ الجماعيَّةِ العربيَّة بقوَّةِ الروايةِ المتوارثة التيِّ تنصاعُ للأحكامِ النَّقديَّة غيرُ معلَّلةِ، فتُصيِّرَهَا وهيَ تَحتَ طائِلةَ العمَى الثقافيِّ لمُسلَّماتٍ يقينيَّة لا فكاكَ عنهَا، لكن الأعجب أن تغتديِّ اللغة بِأشكالها البيانيَّة وتفريعاتِها البديعيَّة أداة مخاتلة تُسوِّق لحداثةِ مفبركةٍ، فمتى كانَ المجازُ تقويمًا لحداثةٍ بعينِها ، ثمَّ أينَ المعاني الابتكاريَّة، والتوصيفاتِ الإدهاشيَّة، التي تخرجُ عن ربقةِ المناويلِ التعبيريَّة الرَّائجة من هذا الحكم، ولذلكَ سعى عبد الغذامي إلى استتباعِ كلِّ شاهد تراثيِّ بصنوهِ المعاصر كمقولةِ المستشرق البريطانيِّ كارل بروكمان: “إنَّ أبا تمامٍ يعمدُ إلى تجميع قوافٍ مُعلَّقة، ثُمَّ يشرعُ في صناعةِ أبياتٍ لها”[16].
وبمقتضى الشَّاهدِ أمكنَ لنا تبرير المفارقة العويصة التي اعتورت النَّقد العربيِّ وهي تحويل القيمِ من معانيها الإنسانيَّة إلى معانٍ شعريَّة، ومن ثمَّ صارت الشبكةُ الأخلاقيَّة تُدار ضمن مدارجِ المقولِ الشعريِّ على زيفهِ المتعمِّد للأحداثِ ما ولَّدَ انطباعًا بأنَّ العقل البيانيِّ العربيِّ تُبهرهُ حداثة أبي تمَّام الشكليَّة على توغُّلِهَا في القدامةِ، لكنَّه بالمقابِل لا يقيمُ لأساليبِ أبي تمام الزائغة وزنًا، وهو الذي ضربَ على شعريتهِ ألويةَ التَّكسُّبِ والارتزاق، كما جاء في هذا الشَّاهد:
باشرتُ أسبَابَ الغِنَى بِمَدائِحٍ ضَربَتْ بِأبوابِ الملوكِ طُبولًا”[17].
عَارضَ عبد الله الغذاميِّ التحليلَ الذيِّ قامَ بهِ القاضيِّ الجرجانيِّ لهذا البيتِ الشعريِّ، ذلكَ أنَّهُ اكتفى بالشرحِ اللغويِّ، والتَّفسير البيانيِّ بينمَا تغافلَ عن دِراستهِ من المنظورِ الثقافيِّ، فالبيتُ الشعريِّ يحويِّ على مزايداتِ بلاغيَّة شديدة التَّكلُّف، حتَى لكأنَّه باتَ مَقولًا استهلاكيًّا يخضعُ لشروطِ السُّوق.
4/الشَّاهد ومُفارقةِ المتنِ والهَامِش
استرشدَ عبد الغذاميِّ بالنَّص الجاحظِّيِّ كشاهدٍ موثوق يعزِّزُ أطروحتهُ وهو الصراع المضمر بين المتن الذي يُحيلُ إلى الثقافة المؤسَّساتية والهامشِ الذي يومئ إلى الثقافة الشعبيَّة والخطاباتِ المقموعة، ولئن تحايلَ الجاحظُ على قرائهِ بافتعالهِ لسردياتٍ كوميديَّة، ونوادر طريفة، تميلُ المسامرةِ والمفاكهة، إلَّا أنَّ الخوضَ في تفاصيلِها، واستنكاه مظانِها سنجدُ أنًّ الجاحظ يشرئبُّ إلى الإطاحةِ بالنَّسقِ الثقافيِّ المهمين وبالتالي فهو يستنهضُ خِطابا مخاتلا ، “يَتَّخِذُ من المُضمَرِ وسيلةً للإفصاحِ عنِ المكبوتِ”[18] والتعريضِ بالنَّسقِ السلطويِّ مثلَ سردهِ لجوابِ الأعرابيِّ الذي سُئِل :
“ما تَفاريقِ العصا، فردَّ مُستطردًا :العَصَا تُقطعُ ساجورًا، وتُقطعُ عصا السَّاجورِ فتَصيرَ أوتَادًا ، ويُفرقُ الوتدُ فتصيرَ كلُّ قِطعةٍ شظايَا”[19].
يُعزِّزُ الشَّاهدُ الصراعُ المُحتدَم بينَ الهامشِ والمتنِ، ذلكَ أنَّ العصا قيمةٌ فحوليَّة ترمزُ للسؤدُدِ والسُّلطة ولذا ألفينَا الخليفةَ الأمويِّ عبد الملك بن مروان يُقرُّ بمركزيَّتِها الباعثة على الكلامِ: “لو ألقيتَ الخيزرانةَ من يديِّ تكنيةً عن العصَا لذهبَ شطرُ كلاميِّ”[20].
ويبلغُ الصراع ذروتهُ لما تتشظَّى العصَا في سياق الحكي إلى سواجير توضعُ في أعناقِ الكلابِ، ما يعدُّ ابتذالا للنَّسقِ السُّلطويِّ وإحلالا للدِّلالاتِ المشفِّرة في النَّص التيِّ يؤديِّ تفكيكُ سنَنِها إلى ميلاد بلاغة جديدة تعضدُ بقَضَايَا الهامش، التي تقوم على رائزيِّ البداهةِ والارتِجال وهذا عبر تأطير المساحاتِ الإبداعيَّة التي تُخلِّفُها الفضاءاتِ الاجتماعيَّة العامة.
وركحًا على ما تأسَّسَ ذِكرهُ نستنتجُ أنَّ حسنَ تخيُّرِ الشَّاهدِ مع حصافةِ الرؤيةِ النقديَّة، المقرونةِ بقراءاتِ عقلانيَّة مُتأنِّية قد سَاعدَت النَّاقد عبد الله الغذاميِّ عَلَى تدويلِ مَنهجٍ نقديِّ ثقافيِّ يواشِجُ بينَ تيارِ الحداثةِ والأصالةِ، ولكن وفق فَلسفة تفكيكيَّة، تقوم على تعرية الأنساق الثقافيّة المضمرة في الخطاباتِ الشِّعريَّة والنثريَّة.، المقرونةِ بقراءاتِ عقلنيَّة
[1] الأزهري، معجم تهذيب اللّغة، مادة شهد، ج1، تح: محمد عوض، دار إحياء التراث العربيِّ، ط1، 2001، ص 76
[2] ابن فارس، معجم مَقاييس اللّغة، مادة شهد، ج3، تح: عبد السّلام هارون، دار الفكر، ط1، 1979، ص224.
[3] ابن جرير الطَّبري، تفسير الطبري، دار ابن الهيثم، القاهرة، ط1، 2004 ، ص 590.
[4] الجاحظ، البيان والتّبيين، ج3، تح: علي بوملحم، مكتبة الهلال، لبنان، ط2، 2002، ص 21.
[5] ابن رشيق المسيلي، العمدة في محاسن الشِّعر، ج 2، تح: محيي الدّين عبد الحميد، دار الجيل، ط5 ،1981، ص60.
[6] المسعودي، مروج الذّهب، ج3، تح: كمال حسن مرعي، المكتبة العصرية، بيروت، ط1 ،2005، ص114.
[7] ابن سلام الجمحي، طبقات فحول الشعراء، دار الكتب العلمية، بيروت، ط،1، 2001، ص17.
[8] الفرزدق، الديوان، مؤسسة هنداوي للنشر، مصر، ط1، 2017، ص 43.
عبد الله الغذاميِّ، النقد الثقافيِّ، قراءة في الأنساق الثقافيَّة، المركز الثقافي العربيّ، المغرب، ط3، 2005، ص97. [9]
[10] المتنبي، الديوان، مطبعة أمين أفندي هنديه، مصر، ط1، 1898، ص319.
[11] عبد الله الغذامي، المرجع السابق، ص162.
[12] نزار قباني، طفولة نهد، مؤسَّسة نوفل للطبع، ط3، 2017، ص4.
[13] نزار قباني، أحلى قصائدي، منشورات نزار قباني، ط18، 1999، ص13
[14] عبد الله الغذامي، المرجع السّابق، ص 254.
[15] عبد العزيز الجرجانيِّ، الوساطة بين المتنبي وخصومهِ، تح: محمد أبو الفضل، مطبعة عيسى البابي الحلبيِّ، القاهرة، 1966،ص53 .
[16] كارل بروكلمان، تاريخ الأدب العربيِّ، ج2، تر: عبد الحليم النَّجار، دار المعارف، مصر، ط1، 1968، ص113.
[17] ابن رشيق المسيلي، المرجع السابق، ص291.
[18] عبد الله الغذامي المرجع السَّابق، ص 226.