أفقت هذا الصباح مزملة بالنعاس، وقد فاتتني صلاة العاشقين، وما إن
أزحت عن صدري تلك الصخرة حتى طفرت أغسل جسدي بماء الاستغفار،
وأرتجف من شدة الذنب الذي يعتصر الروح، ويجعلها سلافاً ذقت حلاوته فور
أدائي لما فاتني!
ولسبب ما سرى في شعور بالسعادة وأنا أكمل ارتداء ملابسي ثم أتجه نحو
مخرج الدار، فأغضيت عيني حياء من نور الشمس الذي سبقني، لكنه ظل كما هو
في كل يوم يحدق في ويلفني بدفئه حيناً ويفتر آخر كلما مررت تحت شجرة من
أشجار (النخيل) الموزعة على أرصفة الطرقات في حينا؛ وخاصة أني أسلم
عليها كل صباح – أترابي من الشجر – واحدة واحدة فقد كبرنا معاً في ربوع ما أطلق
عليه بيني وبين نفسي يثرب الصغيرة.
في هذا الحي الذي كبرت وأصبحت فيه (الدكتورة حياة) كما يناديني الناس
بهذه الثنائية (أوسها وخزرجها)؛ فأنا في الأصل من قرية صغيرة أتى أبي بي
كوني عائلته الوحيدة بعد موت أمي، وقد كنت ما أزال فدرة ليعزي نفسه وقتها
بالانشغال، ويختطف لقيمات عيشنا من عمله في المسجد الذي عينته فيه وزارة
الأوقاف.
يتربع المسجد – مسجد (سلمان الفارسي) – على زاوية في الحي في منتصف
الطريق بين المشفى الذي أعمل فيه وبيتنا والذي يستغرقني لاجتيازه كل يوم عشر
دقائق متضمنة ما ذكرته من طقوس.
وكما اعتدت عند وصولي له ابتدرني الحمام في ساحته بالسلام فقدمت له حفنة من
الحبوب كرد للتحية؛ وبين همس الأجنحة تتخافق وهديل يترنم دوى صوت مكابح
واصطدام أذهلنا معاً، وبردة فعل غريزية انطلق كل منا عكس اتجاه الآخر اتجاهها
خوفاً واتجاهي نجدة نحو الحشود التي أثارت القعقعة ولا طاحن فيها؛ وأنا أقترب
في خفخفة حتى نادي أحدهم أفسحوا الطريق أفسحوا الطريق حضرت (الدكتورة
حياة) فوسعوا لي يبدو الوجوم صورة فوتوغرافية على بعضهم وتدلت حواجب
البعض غضباً وحسرة وهو يذكر اسمه:
(الدرويش نعيم)
(الدرويش نعيم) ببساطة الأعراب قالها!
وغادر بعضُ المنافقين وقد دلس يدَه في جيبه ” وما تلبثوا إلا يسيرا (1)؛ أمّا
بنو قريظة فقد سمعتُ أحدهم يخاطبُ سائقَ السّيارة التي تسببت بالحادث:
حمداً لله على السلامة يا أستاذ!
وتردّد على ألسنة علوج من الأحزاب أنْ خذوه إلى بيتِهِ كي يراه أبناؤُه قبلَ أَنْ يموت فهو رجلٌ فقير لا يقوى على تحمّل تكاليف هذه الحياة.
عجلتُ الناسَ للاتصال بسيّارة الإسعاف وبدأتُ بالإسعافات الأولية حيثُ كان الرجلُ في حالة غياب عن الوعي يجرّ النَّفْسَ ببطءٍ وتردُّدٍ وقد خرجَتْ من اذنيهِ وأنفه قطرات من دم الفقراء القانئ أعادت لهذه اللحظة المكثّفة ألوانها وشقَّ صوتُ سيارة الإسعاف الصمت الذي سادَ أثناء معاينتي له.
صعدتُ إلى السيارة وأنا أنتظرُ انتهاء هاتين الدقيقتين مشفقةً عليه أراقب هذا الوجه الخمسيني الذي يشبه التمرة التي قل الندى عنها، وما زالت حلوةً رغمَ ما بدا عليها من معاناة في طلب الرّزق من تفضّلِ النّاسِ، وممّا كان يكسبه بمساعدة بعض أصحاب المحال في تنظيف أرصفتهم، فيقايض تعبه بما يعطونه ويضعُ ما يكسبه من حلالٍ في عربتِه الصغيرة التي بقيت محطّمة تنتظرُه على ناصية الطَّريقِ الذي خرّ عليه.
وصلنا إلى قسم الطوارئ فطلبْتُ منهم نقله لغرفة التّصوير حالاً، وبمجرّدِ انتهاء التصوير حتّى اتضح لي ما شخَصْتُه من إصابة بالرأس في ثلاث مواضعِ تتطلب التدخل الجراحي العاجل
حضر المساعدون بناءً على طلبي، وباشرنا بإعداده للعمل الجراحي حيثُ كانت الإصابات في أماكن متقاربة خلف ناصية رأسِهِ الذي خذَلَه الشَّعْرُ فِي قَمَّتِهِ وبقيَتْ ندفة من الثلج في مقدمته لتبرد له ما كان يورده لأولاده من كذباتٍ بيضاءَ يصبَرُ بها جوعهم.
تناولتُ المبضع وشققتُ (الخندق)وبدأتُ بأولى الإصاباتِ وفور لمسي لها أضاءتْ لي صورة تلك الوجوه التي تجمّعت في ركنٍ شديد الجوع متخم بالعاطفة في دائرة قطرُها أحضانُ أيّ ومحيطها حنان نظراتها تروي لهم عن بطلها وذلك الغبار الذي يعودُ به كلَّ مساءٍ من معاركه مع الحياة.
– ” وما تلبثوا إلا يسيرا” سورة الأحزاب الآية ١٤
انبريتُ للثانية فأضاءَ لي أصيلُ الشَّمسِ و (الدرويش) يقسِمُ أكياسَ النّعمةِ ويعلّق نصفها على باب جاره الضرير، ويغادر دون أن يُشعر به أحداً صوبَ بيته والفرحة تنضح عن جبينه قطراتِ العرقِ الّتي أصبحت أرابيسكاً من المعاني
في الثالثة رأيتُني أحملُ من مشكاة رأسِهِ مصباحاً فيه زيتٌ ينثالُ عليَّ ليجعل في مسامي بيابي من نورٍ أرى بها مالم أره هذا الصباحَ، ويبرِئُني مما اجتاحني للحظاتٍ ويفسّر ما أفزَعني من فرحةٍ بعد الفواتِ.
ردمت (الخندق) وأنا مزهوةٌ بنصرٍ شاركْتُ فيهِ بقلب خيامِ الأحزاب وصمود (الدرويش نُعيم)، وهلل الأوس والخزرج في داخلي؛ خرجتُ من باب غرفة العمليات ونزعْتُ كِمامتي وأنا متطلعة لهزيمة الشروق القادم أو خوض غزوةٍ
أخرى.